بخلاء اليوم وبخلاء الأمس

TT

رحم الله الجاحظ على كل ما اورده في كتابه الشهير «البخلاء» من طرائف البخل والتقتير. كثيرا ما نجد صفة البخل من الصفات المرتبطة بجينات الانسان وتلازم حياته عبر العصور. ما يتغير منها هو اسلوبها وموضوعها لا غير. دارت معظم طرائف بخلاء الجاحظ حول الطعام والأكل. اما اليوم فقد وجدنا نماذج جديدة من ممارسات البخل ترتبط بتقنيات هذا العصر. من ابرز ذلك واكثره انتشارا شراء الانسان كاسيت او سي دي بخمسة جنيهات بدلا من شراء بطاقة بعشرة جنيهات لسماع المغني في حفلة حية. ولكن في هذا العمل شيئا من الاسراف، فالحريص حقا هو من يستعير الكاسيت من زملائه ويسجله. بل هناك من لا يذهب للحفلة ولا يشتري كاسيت وينقله ويتحمل كلفة الكهرباء، يكتفي بأن يقف على الرصيف ويستمع اليه من راديوهات المقاهي. عندما فتح احد رجال الأعمال سينما في الموصل، لم يلبث ان اعلن افلاسه بعد اشهر قليلة عندما وجد ان شبيبة كل حارة من حارات المدينة كانوا يجمعون اربعين فلسا في ما بينهم بالتساوي، ثم يبعثون بواحد منهم فقط ليشاهد الفلم و يروي قصته للباقين.

ويظهر ان واحدا من هؤلاء الشبيبة، قد كبر ورحل الى بغداد بحثا عن عمل. وتذكر تلك التجربة الاشتراكية الرصينة وقرر تطبيق خبرته على البغداديين. لاحظ ان سينما الملك غازي الصيفية تقع وسط حديقة الأمير غازي بشكل يجعل الجالسين فيها يسمعون صوت الفلم، ولا سيما اغانيه بصورة واضحة، ولكن بدون ان يروا شيئا بالطبع. ورأى ان بامكان هؤلاء ان يستغنوا كليا عن مشاهدة الفلم لو انهم عرفوا القصة. يستطيعون عندئذ ان يجلسوا على المسطبات او ينبطحوا على العشب بكل حرية ودون أي ازعاج من بياع الآيس كريم والشاي حليب ويتابعوا الحوار والأغاني براحة وانطلاق.

لم يضع هذا الرجل كثيرا من الوقت ليتبين الامكانات التجارية الرائعة لهذه الفكرة. ما ان غيرت السينما برنامجها حتى بادر الى استثمار اربعين فلسا في مشاهدة الفلم الجديد. ثم اخذ مكانه في الليلة التالية بين الجالسين في الحديقة يعرض عليهم روايته لقصة الفلم بشكل يربط لهم تسلسل الحوارات والأغاني بشكل بليغ ممتع. «هنا تزعل البطلة من عبد الوهاب فتكسر له العود. هه! اسمعوا راح يغني «الظلم ده كان ليه...» ويدوي مكرفون السينما بصوت عبد الوهاب... الظلم ده كان ليه، وهو انت ذنبك ايه..

تنتهي الجلسة ويجمع من الحاضرين ثمن المتعة. عشرة فلوس عن الشخص الواحد. وينصرف الجميع ممتنين له لتوفير ثلاثين فلسا. واخيرا وفرت له البلدية المشكلة عندما عمدت لتقليم الأشجار فأصبح بامكانه ان يتسلق شجرة منها ويشاهد الفلم كاملا بدون دفع أي اجرة ثم يجلس كل يوم ويشرح لاخوانه تسلسل القصة وما يسمعون من اغانيها بسعر مخفض جدا خمسة فلوس عن الشخص الواحد.