حتى المؤرخ برنارد لويس يحرض على الحرب

TT

يحظى المؤرخ برنارد لويس بشهرة عالمية، ويواجه في البلدان العربية والإسلامية انتقادات حادة، بسبب موقفه المعادي للإسلام وللثقافة الإسلامية. وحتى هنا فإن أفكاره كمؤرخ شأن يخصه، وهو يتحمل مسؤولية الترويج لها والدفاع عنها. ولكن هل يجوز للمؤرخ أن يضع أفكاره في خدمة السياسي ليحرضه على الحروب؟ وماذا يبقى منه آنذاك كمفكر يعتبر أن الكلمة هي سلاحه للوصول إلى عقول الناس؟ نطرح هذا السؤال بمناسبة ما نشر عن دوره في اللقاءات التي يعقدها القادة الأميركيون المتطرفون للتحضير لشن حرب ضد العراق، حيث يحضر برنارد لويس الاجتماعات السياسية ويلعب فيها دور المحرض لا دور الشارح والناصح، ونكتشف أنه هو صاحب فكرة الربط بين الإرهاب وبين إمكانية تزويد العراق للإرهابيين بأسلحة الدمار الشامل، وهي النظرية التي أصبحت الإدارة الأميركية تعتمدها لتبرير الحرب.

تقول المعلومات الأميركية المنشورة أنه بعد مضي أربعة أيام على هجمات 11 أيلول (سبتمبر) اجتمع الرئيس جورج بوش مع كبار مستشاريه في كامب ديفيد لمناقشة الحرب القادمة، وكان برنارد لويس حاضرا (بأي صفة؟). اقترح كولن باول أن تكون الحرب ضد تنظيم القاعدة وضد نظام طالبان الذي وفر للقاعدة المكان الآمن. ولكن بول ولفووتز نائب وزير الدفاع قال آنذاك إن الرئيس صدام حسين يشكل خطرا على الولايات المتحدة أكبر بكثير من أسامة بن لادن.. وعبر دونالد رامسفيلد وزير الدفاع عن تأييده لوجهة نظر نائبه. كان رامسفيلد توصل إلى قناعة بأن سياسة الأمم المتحدة تجاه العراق فشلت، وبعد هجمات سبتمبر أبدى رامسفيلد ونائبه ولفووتز رفضا حادا لسياسة «احتواء ــ إضعاف» صدام حسين التي اتبعتها إدارة كلينتون، وأيدهما في هذا الموقف المؤرخ المتخصص في الشرق الأوسط برنارد لويس، مذكرا بما كان سيحصل لو أن الإرهابيين حصلوا على أسلحة دمار شامل.

وتقول المعلومات الأميركية المنشورة إنه مع سير معركة أفغانستان بنجاح (شهر 10/2001) التقت مجموعة من المسؤولين في البيت الأبيض للتداول في ما هو مقبل: هل ستتعرض الولايات المتحدة لهجمات جديدة؟ ما هي المرحلة الثانية من الحرب ضد الإرهاب؟ وظل ديك تشيني (نائب الرئيس) في هذه المداولات مقتنعا بأن الوقت قد حان للقيام بعمل ضد صدام حسين، وخلال تناول الغداء بمقر نائب الرئيس، كان تشيني يستمع فيما كان برنارد لويس يشرح وجهات نظره للحضور. والتقى الرجلان قبل عشر سنوات خلال حرب الخليج الثانية، ومنذ ذلك الحين ظل برنارد لويس يعتقد بأن الولايات المتحدة خذلت العراقيين بعدم دعمها للانتفاضة ضد صدام حسين عام 1991.

نكات ساترفيلد

جاء إلى المنطقة في الشهر الماضي ديفيد ساترفيلد مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط. رجل جاد، يتحدث بهدوء، ويعطي أثناء الحديث انطباعا بالثقة. أعلن أنه جاء ليستمع، وليطلع على التطورات، وليقدم تقريرا للرئيس. أطلق في رام الله تصريحات عن الإصلاحات الفلسطينية أثارت الارتياح، وأطلق في دمشق تصريحات عن النظرة الأميركية لسوريا أشاعت جوا من الاطمئنان، إلا أن الأمور في إسرائيل حين زارها بدت بصورة مختلفة كليا، ونقلت عنه صورة الرجل الماكر، المعادي، المحرض لإسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب.

كتب إليكس فيشمان «يديعوت أحرونوت» 6/9/2002 ناقلا نتفا من أجواء لقاءاته مع المسؤولين الإسرائيليين فقال: «منذ وقت طويل لم نشاهد هنا ابتسامات كثيرة إلى هذا الحد، حيث أثار ساترفيلد موجات من الضحك في اللقاءات مع القيادة الأمنية والسياسية الإسرائيلية». ما هو موضوع هذه الضحكات؟ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، يكمل الكاتب ويقول «تحدث ساترفيلد عن حوار جرى بينه وبين كوندوليزا رايس، وكان موضوع الحديث رغبة عرفات في المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة... هل تعرفون ماذا قالت كوندي؟ إذا اقتربت طائرة عرفات من الأجواء الأميركية سنسقطها. وضحك المسؤولون الإسرائيليون بارتياح». بعد نكات ساترفيلد، وبعد تبادل الضحكات مع القادة الإسرائيليين بأربعة أيام، بادر الجيش الإسرائيلي إلى اتباع سياسة القتل العمد للمدنيين فقتل 12 مدنيا في يوم واحد.

الجنرال الجديد القادم إلينا

أصدر آرييل شارون قراره بتعيين الجنرال السابق مئير دغان رئيسا لجهاز المخابرات الخارجية «الموساد»، ولهذا التعيين قصة تروى.

عام 1970، وبعد المواجهات الدامية بين العمل الفدائي والنظام الأردني، توقفت تقريبا الهجمات الفدائية في الضفة الغربية، وبقيت ناشطة في قطاع غزة. آنذاك كان الضابط آرييل شارون هو قائد منطقة قطاع غزة، وكان الضابط الفلسطيني «جيفارا غزة» مسؤول الجبهة الشعبية هو الذي يقود عمليات مقاومة نشطة ضد الاحتلال الإسرائيلي، متعاونا مع الفصائل الفدائية الأخرى. كان قطاع غزة منطقة محاصرة من كل الجهات، ويتواجد الجيش الإسرائيلي في كل شارع من شوارعها، الأمر الذي يعني صعوبة تنظيم حرب عصابات ضد الاحتلال، ولكن «جيفارا غزة» ومن معه من الشباب، ابتكروا أساليب في العمل جعلت تنظيم مقاومة مسلحة أمرا ممكنا. استغلوا شوارع المخيمات الضيقة وصعوبة دخول سيارات ومصفحات الجيش الإسرائيلي إليها. استغلوا تقارب البيوت فيما بينها للتنقل عبرها من حي إلى حي متجاوزين الحواجز الإسرائيلية. وبادروا إلى حفر أنفاق بين المنازل وعبر الشوارع ومن مخيم إلى آخر يتنقلون من خلالها لتنفيذ عملياتهم، واستطاعوا من خلال ذلك كله أن يجترحوا معجزة المقاومة في غزة المحاصرة.

في تلك الفترة أخذ شارون على عاتقه تصفية المقاومة هناك، تصفية تنظيمية وجسدية، وعمل لتنفيذ هذه الخطة مدة سنتين كاملتين، ولم يتورع عن استخدام أي وسيلة من وسائل القتل المنظم وصولا إلى هدفه. بدأ برسم خارطة للهيكل التنظيمي لكل فصيل، وبدأ من خلال حملة الاعتقالات والتعذيب والاعترافات، تعبئة الهيكل التنظيمي بأسماء الأشخاص تمهيدا لاعتقالهم أو قتلهم، ومارس القتل بالجملة وصولا إلى هدفه. من كان المسؤول عن تنفيذ عمليات القتل؟ الضابط مئير دغان الذي اختاره شارون الآن ليكون رئيسا للموساد. أقام دغان في غزة وحدة عسكرية خاصة أطلق عليها إسم «وحدة ريمون»، وحدة متخصصة بالملاحقة والاعتقال والاغتيال، وكانت النموذج الأول لوحدات مماثلة تم إنشاؤها أيام الانتفاضة الأولى، وعرفت حينها باسم وحدات المستعربين (لأن أفرادها يرتدون الملابس العربية للتخفي)، أما أسماؤها الرمزية فكانت «شمشون» و«دوفدوفان».

وتتحدث صحيفة «يديعوت أحرونوت» 11/9/2002 عن دور وحدة ريمون في غزة فتقول «تحدث مقاتلون سابقون عن إعدام بدم بارد للاسرى، وقالوا إن الخدمة شوشت حياتهم». وقال الجنرال دغان في إحدى المقابلات الصحافية مبررا تصرفاته في غزة: «أنا لا أفهم لماذا يمكن لطائرة أن تسقط عدة أطنان من القنابل على رجال حزب الله في لبنان... ولكن لا يجوز لوحدة مستعربين أن تمس موضعيا (لاحظ هذا التعبير اللبق تمس موضعيا) بثلاثة مخربين؟». وجوابا على هذا السؤال نال دغان وسام الشجاعة بترشيح من رئيسه شارون.

اليوم.... أصبح شارون رئيسا للوزراء، واصبح مئير دغان جنرالا متقاعدا، واختاره شارون ليصبح رئيسا للموساد بدلا من هاليفي، وتقول يديعوت أحرونوت أن الكل ينتظر منه أن يعيد لجهاز الموساد هالة الماضي، و«يتوقعون منه عمليات تتم بصورة جيدة، يعرف منفذوها كيف يحقنون السم دون أن يلقى القبض عليهم».

الجنرال دغان وقبل أن يكلف برئاسة الموساد، وضع خطة لاغتيال الرئيس العراقي صدام حسين في بغداد، ووضع خطة لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية الراهنة، وأرسل الخطة إلى شارون واعتمدها شارون فورا.

الجنرال دغان ولد في قطار كان في طريقه من سيبيريا إلى بولندا، ووصل إلى إسرائيل في سن الخامسة، وحين تطوع في الجيش غير اسمه من هوبرمان إلى دغان، وهو بجانب القتل بدم بارد، يحب اللغة الناعمة، اللغة المعقمة، ففي خطته إلى شارون لقمع الانتفاضة الفلسطينية، لا يتحدث ابدا عن القتل والتصفية والاغتيال، بل عن «الإصابة الجسدية»، و«المعالجة الموقعية الشخصية»، والمعروف أن شارون يحب هذه اللغة كثيرا.