أحمد شاه مسعود.. شهيد مظلوم

TT

وحدها افغانستان من دون كل العالم كانت مشغولة طيلة الاسبوع الماضي عما جرى في 11 سبتمبر (ايلول) 2001، بحدث آخر اهتزت له، ووقع قبل يومين من ذلك التاريخ في ذات العام المنصرم، وهو مقتل القائد احمد شاه مسعود في التاسع من سبتمبر، على يد اثنين من الشبان العرب، وهما مَنْ جندهما تنظيم «القاعدة» في الأغلب لارتكاب الجريمة لصالح حركة طالبان بعدما ظل مسعود يقود الحرب ضدها بصلابة وعناد طيلة خمس سنوات، الأمر الذي يسوغ لنا ان نقول ان قتل الرجل كان بمثابة «الهزة الأرضية» التي وقعت في افغانستان، وسبقت «الزلزال» الذي وقع في نيويورك.

حتى أكون دقيقا، فان مناسبة مرور عام على اغتيال القائد مسعود لم تكن شاغلا لكل افغانستان، وإنما كانت الحكومة والاعلام ومناطق التاجيك الشمالية هي أكثر من انشغل باحياء الذكرى، بينما اختلف الامر نسبيا في مناطق البشتون في النصف الجنوبي من افغانستان، والاوزبك في جزء آخر من الشمال، إذ ظلت الحكومة والتلفزيون والاذاعة والصحف اليومية تتحدث في الموضوع طول الوقت، وتعبر عن الحزن والأسى بكل السبل، وكانت مناطق التاجيك ترفع الاعلام السوداء في كل مكان، وتنظم مجالس العزاء وتذرف الدموع على القائد الشهيد، الذي غطت صوره جدران المباني وواجهات المحلات، في حين ان صدى المناسبة كان أكثر تواضعا في قندهار وجلال اباد ومزار شريف على سبيل المثال، وهي من معاقل البشتون والاوزبك، وبطبيعة الحال فان ذلك لم يمنع ممثلي كل الفئات والاعراف الافغانية من المشاركة في الاحتفالات الرسمية التي اقامتها الدولة، وعلى رأسها الاحتفال الحاشد الذي اقيم بملعب العاصمة كابل في التاسع من سبتمبر، الذي اصبح عطلة رسمية، واعتبر في التقويم الافغاني «يوم الشهيد».

حضرت في كابل مؤتمرا دوليا اقيم في المناسبة اشتركت فيه وفود وشخصيات من تسع دول، وتحدث في افتتاحه ممثلو الاعراف الرئيسية في افغانستان، كما القيت في جلساته التي استمرت يومين كلمات الوفود والشخصيات المدعوة، التي سلط بعضها الضوء على شخصية القائد الشهيد، في حين ركز البعض الآخر على مشروعه وفكره. في اليوم الثالث شهد الجميع الحفل الكبير الذي اقيم بالملعب واريد له ان يعكس أجماع الأمة الافغانية على احياء ذكرى الرجل، وقد تصدرت الملعب صورة مسعود، التي وضعت الى جوارها صورة لمؤسس الدولة الافغانية قبل 250 عاما احمد خان الابدالي (احمد شاه بابا). أما اليوم الرابع فقد خصص لزيارة قبر الشهيد الذي يبعد عن العاصمة بحوالي 100 كيلومتر، وقد اقيم فوق أحد جبال وادي «بنشير» الذي يعتبرونه «مقبرة الغزاة» السوفييت في نقطة وسط بين مقر قيادته الذي اقيم فوق قمة اعلى، وقرية «خانيس» التي تمتد على سفح الوادي بمحاذاة وادي بنشير.

وقتذاك تحولت العاصمة كابل ومناطق الشمال التاجيكية على الأقل الى سرادق كبير للعزاء، وقد ذكرتني مراسم وطقوس احياء الذكرى، التي كان بكاء الكثيرين قاسما مشتركا فيها، بأجواء الحزن البالغ التي تخيم على مجتمعات الشيعة في ذكرى مقتل الامام الحسين بكربلاء. ومن مصادفات الاقدار ان يكون يوم مقتل الشهيد مسعود في التاسع من سبتمبر، بينما التاسع من محرم هو اليوم الذي انتهى فيه الاعداد لقتل الامام الحسين، ونفذت الجريمة في اليوم العاشر.

غاب العرب عن المؤتمر، إذ باستثناء اثنين جاءا يمثلان المؤتمر الشعبي الحاكم في السودان كنت العربي الثالث، ولم تكن هناك أية مشاركات عربية أخرى، في حين كان الحضور الآسيوي والأوروبي والاميركي قويا وواضحا. كان أكبر الوفد من جمهورية تاجكستان المجاورة، وجاء الوفد الايراني في المرتبة الثانية، والفرنسي في المرتبة الثالثة، وكان عدد أعضاء كل وفد يتراوح بين 10 و15 شخصا، وقد لوحظ ان الوفد الفرنسي ضمنه اعضاء في البرلمان ومثقفون وصحفيون. أما الباقون فكانوا من الهند واليابان وايطاليا والمانيا وانجلترا والولايات المتحدة...إلخ.

وسواء كان الغياب الذي أعنيه ناشئا عن تردد وتخوف من الجانب العربي، أو حتى تقاعس واهمال من الجانب الافغاني، فالمشاهد ان العرب الذين رووا بدمائهم أرض افغانستان، وبعضهم حارب يوما ما مع احمد شاه مسعود، قبل ان يصطفوا الى جانب حركة طالبان، اختفوا ليس فقط من المؤتمر، وإنما من المسرح الافغاني عامة، وتلك قصة طويلة ومحزنة، لست في مقام تحريرها الآن.

غير أن أكثر ما يهمني في هذه المناسبة هو مراجعة مشهد الخصومة، الذي انتهى بتلك النهاية المأساوية والمخجلة، ولا اريد بهذه المراجعة سوى ان تستخلص دروس التجربة وعبرتها، لان ذلك القائد الفذ، الذي ظل يوصف طيلة سنوات الجهاد ضد السوفييت بأنه «أسد بنشير» شوهت صورته فيما بعد، وتم تجريح بطولته وكرامته واعتقاده، حتى استحل البعض دمه، وبعثوا إليه بمن قتله غدرا، في جريمة نكراء، أحسب ان كثيرين سيحاسبون عليها أمام الله، سواء ممن حرضوا القتلة، أو اولئك الذين والوهم وأيدوهم، وحتى اولئك الذين سكتوا عن الفتنة حتى استفحلت وأدت الى وقوع كارثة في نهاية المطاف.

ما أريد أن أقوله اننا أخطأنا في حق احمد شاه مسعود، وظلمناه وبقسوة لم تكن مبررة، واننا مدينون له بالاعتذار عن الخطأ في حقه، كما اننا ينبغي ألا نتردد في اعلان البراءة ممن قتلوه فاعلين كانوا أم محرضين، واعتبار الجميع مجرمين في حق الدين قبل الدنيا.

أدري ان احمد شاه مسعود كان له خصوم من الافغان (قلب الدين حكمتيار زعيم «الحزب الاسلامي» في مقدمتهم، وله كتاب طبع في ايران بعنوان «مؤامرة مكتومة» (كرس معظمه لتشويه مسعود وتصفية الحساب معه) وكان زعماء حركة طالبان بدورهم من خصومه الذين ناصبوه العداء، ورفضوا التفاهم معه. غير ان الخطأ الجسيم الذي ارتكبه العرب في افغانستان انهم بعد الانسحاب السوفييتي، وبعد انتهاء المرحلة الجهادية ورطوا أنفسهم في السياسات والصراعات الداخلية الافغانية، التي كانت أبعد ما تكون عن الجهاد، واصطفوا الى جانب حكمتيار تارة، والى جانب طالبان في طور آخر، فلوثوا جهادهم وأهالوا التراب على صفحته المجيدة، وانتهوا الى تلك النهاية البائسة التي تعرف.

ان «أسد بنشير» حوله خصومه الى موال للشيوعيين وحليف للشيعة وعميل للغرب بالمعنى الاخلاقي فضلا عن السياسي، وكانت هذه أكاذيب استهدفت اغتيال مسعود معنويا والتمهيد لتصفيته جسديا، ولاحقا تبين ان اتصالاته بالسوفييت كانت من قبيل تسكين جبهة للتركيز على جبهة أخرى، كما تبين ان الرجل كان يتطلع بعد تحرير افغانستان الى تخليص الجمهوريات الاسلامية في وسط آسيا من الهيمنة السوفييتية. وكان قد أجرى اتصالات مع ممثلي الحركة الوطنية والاسلامية في تاجكستان، كما ساعد الاوزبك والشيشان. أما الشيعة فاذا كان التحالف معهم تهمه، فان خصمه حكمتيار الذي شنع عليه لهذا السبب، انتهى متحالفا مع الشيعة ضد مسعود. وفيما يخص سلوكه وأخلاقه فيكفي ان يشهد لصالحه في ذلك شيخ المجاهدين الشهيد عبد الله عزام وزعيم الاتحاد الاسلامي الشيخ عبد رب الرسول سياف، وقد اشادا بخلقه واستقامته والتزامه بالفرائض الدينية والطاعات، أما مزاياه الشخصية وقدراته العسكرية والاستراتيجية الفذة، فلم يختلف عليها أحد.

ان الذين حاربوه كانوا من ذلك النموذج الذي ادانه الحديث النبوي الشريف واعتبر ان من علاماته انه «اذا خاصم فجر»، ومن أسف ان الصورة التي رسمت لاحمد شاه مسعود عممت على العالم العربي، وأثرت على صورة الرجل في الادراك العام، حتى شاع بين بعض شرائح المسلمين ان مسعود حين حارب طالبان فإنما حارب دولة الاسلام، وهذا لم يكن صحيحا على الاطلاق، لان الرجل الذي لم يكن ينام إلا متوضئا كما وقف محاربا ضد التطرف اللاديني في الجهاد ضد السوفييت، فانه حارب التطرف الديني في نموذج طالبان، وهو ما قلته في كلمتي الى المؤتمر، وذهبت الى ان القائد الشهيد كان يدافع عن أمل أهل الوسط في الساحة الاسلامية، ممن يحلمون بأن تقام في بلادهم يوما ما الدولة الاسلامية الديمقراطية، التي تبنى على دعائم من كتاب الله وسنة رسوله، ويتطلع في الوقت ذاته الى قيام مجتمع العدل والمساواة والحرية والديمقراطية.

علماؤنا خدعوا بدورهم وانطلت عليهم الأكذوبة، وهم الذين لم يكونوا بعيدين يوما ما عن مسيرة الجهاد الافغاني، وانما توجهت جهودهم للمصالحة والتوفيق بين فصائل المجاهدين الذين كثيرا ما دبت الخلافات بينهم، غير انه حين اختلف احمد شاه مسعود مع زعماء طالبان، ورغم انه كان معه في «التحالف» الشيخان رباني وسياف، فان اولئك العلماء التزموا الصمت ووقفوا متفرجين بعيدا عن المسرح، ولم يستجيبوا حتى للنداء القرآني الذي يدعو الى الصلح بين طوائف المسلمين، إذا ما دب الخلاف والشقاق بينهم.

لقد سُرق الوعي الاسلامي في لحظة ما كان ينبغي ان يغيب فيها، وكان لذلك التغييب ثمنه الفادح الذي دفعه الجهاد والمجاهدون في افغانستان، وقد آن لنا ان نعترف بالخطأ وان نعتذر عنه، لكن يبقى السؤال، كم يا ترى ظلمنا من الناس من جراء تصديقنا لأولئك النفر من المسلمين، الذين اذا خاصموا فجروا؟