الحصار جريمة إرهابية

TT

يصعب فصل حصار رئيس السلطة الوطنية ياسر عرفات داخل الاطلال الباقية من مكتبه منذ يوم الخميس الماضي 19 سبتمبر (ايلول) عام 2002 عن العدوان الاسرائيلي الذي بدأ في يوم 15 مايو (أيار) عام 1948 باقامة اسرائيل على أرض فلسطين أو عن جذوره التاريخية التي ترجع للوراء إلى مائة وخمس سنين ماضية بانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897، الذي توصل الى حتمية اقامة دولة اسرائيل فوق «أرض الميعاد لشعب الله المختار اليهود».

لا نريد ان نجتر تاريخ العدوان الاسرائيلي على فلسطين فهو موثق ومعروف، وانما نسعى الى القفز فوق حواجز الزمن لنقرر بأن الحصار المفروض على مقر الحكم للسلطة الوطنية في مدينة رام الله ليس فقط عدوانا كما يتردد في الأوساط الدولية وانما ايضا نتيجة لسلسلة من العدوان الاسرائيلي توظف لتكون سببا في الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة وحجة في الغاء المطالبة بها من قبل اهلها واصحابها، وعبرت عن ذلك تل ابيب بوقف المسار السلمي بالتفاوض وتصعيد المسار القتالي باستخدام السلاح، بكل ما يترتب عليهما من ادران سياسية واقتصادية واجتماعية لتشكل مجتمعة منظومة استراتيجية تؤدي الى الغاء الحوار وما ينتج عنه من سلام يحقق الأمن الاقليمي والتوازن السلمي الدولي، وتفرض اللجوء الى السلاح وما يحققه من استسلام يعيق الأمن الاقليمي ويخلخل التوازن السلمي الدولي.

هذا الفهم لحصار مقر الحكم الفلسطيني في رام الله والمستمر لسبعة ايام والمتوقع استمراره لاكثر من ذلك بروابطه مع العدوان على الأرض في الماضي وبتطلعه الى التوسع على الأرض في المستقبل، يجعله اخطر بكثير من شكله العدواني الظاهر، لأن اهدافه الخفية ترمي الى استبدال هوية الأرض بالاستحواذ عليها وهوية الانسان بالتوطين اليهودي بها حتى يفقد الاقليم انتماءه العربي الفلسطيني ويكتسب الانتماء الصهيوني الاسرائيلي، والهدف من ذلك الغاء شرعية المطالبة بالأرض المحتلة، واضفاء الشرعية على الاستعمار الاستيطاني.

تناقض هذا الموقف الاسرائيلي مع منطق القانون الدولي العام الذي يقرر شرعية الكفاح ويحرم العدوان جعل المستشار القانوني للحكومة الاسرائيلية يرفع الحجة التي تستند الى ان اسرائيل تحارب الارهاب الفلسطيني باعتباره جزءاً من الارهاب الدولي الذي تحاربه امريكا بعد العدوان عليها في 11 سبتمبر عام 2001، وتشاركها في هذه الحرب الدنيا بأسرها التي اختارت ان تكون معها وليست عليها في مواجهة الارهاب الدولي، وقال المستشار القانوني للحكومة الاسرائيلية ان الموقف الدولي الراهن الجديد يستدعي اعادة النظر في التشريع لاحكام القانون الدولي العام بما يتفق مع واقع الحال العالمي الذي يحارب الارهاب على المستويين الدولي والاقليمي ليأتي التشريع الدولي الجديد مجرماً للارهاب ويضفي الشرعية على العمل العسكري الموجه ضده.

هذا المطلب الاسرائيلي بالتجديد في التشريع القانوني بما يتفق مع واقع الحال العالمي، يتجاهل عمداً ان صياغة التشريع تستند إلى العدل الذي يتركز على الحق، ويجمع فقهاء القانون على ان العدل والحق لا يتأثران بتغيير واقع الحال لما لهما من ثبات راسخ وكل محاولة للتلاعب بهما تحت ضغط هوى النفس يحول العدل الى ظلم والحق الى باطل، وهو ما تحاول ان تصل اليه اسرائيل تحت مظلة محاربة الارهاب ناسية او متناسية ان ما تقوم به من عدوان يمثل اعتى صور الارهاب الذي تمارسه الدولة وبلغ ذروته بمحاصرة رئيس السلطة الفلسطينية في داخل مكتبه الآيل للسقوط بعد دك كل ما حوله من مبان تابعه له، وعلى الرغم من انحياز امريكا لاسرائيل نجد واشنطون يضيق صدرها بحجم الجرم الذي ارتكبه رئيس الوزارء الاسرائيلي اريل شارون الى الدرجة التي جعلت البيت الأبيض يعلن يوم الاحد الماضي 22 سبتمبر عام 2002 بأن محاصرة اسرائيل لمقر الرئيس ياسر عرفات في رام الله لا يدخل تحت مظلة محاربة الارهاب للقضاء عليه او خفض درجة ممارسته، ويعذر في نفس الوقت الأخذ باسباب الاصلاحات السياسية والادارية المطلوبة من الفلسطينيين.

لم تجسد امريكا الرأي الذي اعلنته من البيت الأبيض بنقد ما يحدث، على أرض الواقع الفلسطيني بمطالبة تل أبيب فك الحصار عن الرئيس ياسر عرفات، لأن هناك اتفاقاً مبرماً بين امريكا واسرائيل يقضي باسقاط ياسر عرفات من السلطة والحكم، وقد فضحت هذا الاتفاق سلسلة التصريحات الصادرة من واشنطون ترديدا للتصريحات الصادرة من تل ابيب وكلها تجمع على عدم صلاحية ياسر عرفات للحكم لعدم قدرته على فرض هيبة السلطة على المواطن الفلسطيني الذي يواصل الكفاح المسمى عندهما بالارهاب ضد اسرائيل بتفجير النفس في الاوساط المدنية الاسرائيلية ويصفونها بالموبقات لتطاولها بقتل الابرياء من المواطنين الاسرائيليين دون ان ينظروا من زاوية الرؤية الاخرى لحجب الموبقات التي ترتكبها اسرائيل بارهاب الدولة في قتل الابرياء الاطفال والمسنين من النساء والرجال او باللجوء الى قتلهم البطيء من خلال حرمانهم من الطعام والمأوى والدواء.

لا يختلف احد بما في ذلك المعارضة في داخل اسرائيل بأن الصمت الدولي تحت الضغط الامريكي ازاء جرائم حكومة الوحدة الوطنية الائتلافية ضد الشعب الفلسطيني فرض الكفاح الوطني المشروع في سبيل تحرير اراضيهم من الاحتلال الاسرائيلي الاستيطاني المحرم، واختلال القوة جعل الشباب الفلسطيني يلجأ الى العمليات الاستشهادية التي افزعت اسرائيل واقلقت امريكا وسفهت حساباتهما الاستراتيجية الرامية الى فرض سيطرة اسرائيل الابدية على كل فلسطين، ولجأت اسرائيل لحماية نفسها من عمليات تفجير النفس ضدها الى فرض الصدام المسلح الفلسطيني ـ الفلسطيني من خلال تصعيد التناقض بين السلطة الوطنية وبين الكفاح الوطني وفشلت هذه المحاولة لادراك الفلسطينيين شعبا وسلطة لمخطط «فرق تسد» الذي تنتهجه اسرائيل، فبادرت امريكا بتشكيل اللجنة الرباعية من الولايات المتحدة الامريكية، واتحاد الكومنولث الروسي، والوحدة الأوروبية، والامم المتحدة، لاخراج اسرائيل من ضائقة حرب التحرير الفلسطينية بالعمليات الاستشهادية، وجاءت قرارات اللجنة الرباعية تحرم تفجير النفس واعتبارها من العمليات الارهابية، ولكن هذه القرارات لم تمنع اسرائيل من استخدام القوة المفرطة في ضرب المدنيين الفلسطينيين، وهو ما جعل تل ابيب تستند الى قرارات اللجنة الرباعية في اصدار قانون جديد يبيح اغتيال أو اعتقال اهل من يقومون بتفجير انفسهم ونفذوه بدون ادنى مراعاة لحقوق الانسان التي تحرم تجريم احد بجريرة غيره مهما كانت درجة القربى بينهم، وكان هذا القانون الجديد سببا في اجتياح الجيش الاسرائيلي للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية.

يأتي رأي من المعارضة في الكنيست يقرر بوضوح ان الحصار المفروض على الرئيس ياسر عرفات يرمي الى التخلص منه اما بعزله لنفسه بالاستقالة واما باخراجه من السلطة بالاقالة لأن بقاءه في الحكم يعثر الغاء اتفاقية اوسلو وما قبلها وما بعدها من اتفاقيات بما يضفيه عليها من شرعية بوجوده في السلطة ويلزم اسرائيل بالتقيد بها، وهو امر يرفضه اريل شارون الذي اعلن قبل ايام معدودة الغاء كل الاتفاقيات المبرمة مع الفلسطينيين طوال المرحلة السابقة لحكمه، ومن هنا تأتي خطورة الحصار الرامي الى هدف واحد وهو اخراج ياسر عرفات من السلطة ومواصلة الحرب بدون نهاية.