الطباخ الأميركي الماهر وطبخته غير الشهية

TT

من جملة التحضير لـ«مأدبة العدوان» على العراق التي اصابتها في الصميم المرونة العراقية المباغتة والمتمثلة بالموافقة على عودة المفتشين الدوليين ومن دون شروط، كانت هنالك طبخة سياسية متقنة الصنع الهدف منها حمل كل دولة عربية واسلامية ذات تأثير على عدم معارضة الضربة، أو السكوت عنها، أو التذرع بأنها طوفان من نوع جديد ولا مجال لمواجهة هذا الطوفان. كما أن من نتاج تلك الطبخة حمل الدول الاوروبية المعترضة على تخفيف إعتراضاتها وحمل الدولتين الكبريين روسيا والصين على خفض صوتيهما وصرف النظر عن نقضيهما.

وتعالوا نتأمل في المشهد.

بالنسبة إلى الدول العربية ذات التأثير كسياسة وكدعم للموقف العراقي نرى أن الطباخ الأميركي الماهر وضع برسم التداول «قانون محاسبة سورية» وان هنالك تقاسماً للأدوار ومبعوثين الى دمشق ينقلون الرسائل وربما الإنذارات في الحد الأدنى أو التلويح بالتهديد في الحد الأقصى. والتهديد من خلال إشعال العمق السياسي للحكم السوري، أي لبنان. وفي معرض تقاسم الأدوار تولى الرئيس بوش مهمة الإيحاء بأنه ليس مع مناقشة الحالة السورية ضمن هذا القانون وتولت عناصر في الكونغرس مهمة السعي لتسهيل الطريق أمام المناقشة في جلسة تنتهي بإنزال العقوبات في حق الحكم السوري. وفي إطار هذا السعي كان الترحيب المتدرج في واشنطن باللواء ميشال عون رمز المعارضة المسيحية الجزئية اللبنانية للعلاقة مع سورية على النحو التي هي عليه هذه العلاقة. ونقطة الضعف في دعاة المحاسبة من جانب الكونغرس هي أن نسبة المسيحيين من الموارنة أو من بقية مشتقات الطائفة من أرثوذكس وكاثوليك الذين يزايدون على الموارنة المتشددين في موضوع مناهضة العلاقة المشار إليها، هي شكلاً أقل من نسبة المسايرين لهذه الخصوصية أو الذين باتوا جزءاً من علاقة المصلحة المشتركة بشقيها السياسي والاقتصادي مع سورية. بل قد يجوز القول إن «الماراتون» المسيحي اللبناني لنيل الرضى السوري لا يختلف لدى الزعامات الصغيرة والكبيرة في الطائفة عن «الماراتون» الاسلامي بمشتقاته هو الآخر.

وما يلفت الانتباه هو أن اللهجة الأميركية في اتجاه الحكم السوري تعلو وتهبط وضمن إيقاعات محسوبة من جانب إدارة الرئيس بوش. والغرض من ذلك هو أن يعدِّل هذا الحكم في موقفه من العراق بحيث لا يبقى على الوتيرة التي تميل الى تشكيل جبهة رفض للضربة العسكرية للعراق، تتطور في ضوء التداعيات إلى ما هو أكثر من الرفض اللفظي، أي بما معناه تكون سورية العمق العسكري والسياسي للعراق وتكون الملاذ الآمن للقيادات العراقية وتكون الملاذ الطبي والتمويني في حال أن الضربة تحولت إلى استنزاف مشترك، استنزاف من جانب العراق للقوات الأميركية، مفترضين أنه سيكون هنالك إنزال قوات ومطاردات على الارض العراقية من أقصى الجنوب الى أقصى المناطق الكردية، واستنزاف من جانب القوات العراقية للحكم العراقي بغرض إنهاكه.

وبدا واضحاً أن اللهجة الأميركية في اتجاه الحكم السوري لن تخف إلاّ عندما ينتهي الموقف من جانب هذا الحكم الى التسليم بأنه في حال رأت الامم المتحدة ومن خلال مجلس الأمن ان البديل لرفض العراق عودة المفتشين هو الضربة العسكرية وضمن شرعية تحصل عليها إدارة الرئيس بوش من الأمم المتحدة، فإن السكوت عليها يصبح هو المطلوب. والسكوت ليس بالضرورة أن يكون علامة الرضى وإنما هو الأمر الذي لا بد منه.

وما فعله الطباخ الأميركي الماهر مع الحكم السوري فعله مع الحكم المصري، ذلك أنه من أجل أن يخفف هذا الحكم من اعتراضاته على توجيه الضربة العسكرية الى العراق كان لا بد كخطوة أولى من جعل بال هذا الحكم ينشغل في أكثر من اتجاه. وعلى هذا الأساس كان الموقف الأميركي الرسمي الخشن من موضوع الدكتور سعد الدين إبراهيم والتهويل على القضاء المصري والاستعداد من جانب أوكار داخل الإدارة الأميركية لجعل الرجل الذي أدانه القضاء المصري بتهمة التخابر والتشكيك بالحكم والانتخابات التي يجريها والتركيز على إدعاءات عن إضطهاد يلقاه الأقباط والحصول على مساعدات مالية من جهات أجنبية من بينها جامعة إسرائيلية «بازوفت» آخر او «سلمان رشدي» آخر. وقد لقي الدكتور سعد الدين إبراهيم من التعاطف الأميركي الكذوب ما لا مصلحة له فيه، بل قد يجوز القول إن هذه المبالغة في التعاطف الأميركي معه جعلته يخسر تعاطف بني قومه معه وبالذات تعاطف المثقفين المصريين والعرب كونه واحداً من هذه النخبة في العالم العربي. ولكن موضوع سعد الدين إبراهيم أقلق الحكم المصري كما لم تقلقه عشرات الموضوعات التي لها صلة بالقضاء المصري، ذلك أنه لم يقتصر على التلويح بالعقوبة الاقتصادية وعدم تقديم مساعدة إضافية مقررة لمصر، وإنما لم يبق مسؤول أميركي يزور مصر إلا ويثير هذا الموضوع مع الرئيس مبارك، فضلاً عن أن إلحاح هؤلاء من أجل تبرئة الدكتور سعد الدين إبراهيم كان اكثر من القدرة على التجاوب معه، ذلك أن التجاوب من شأنه التسبب في نشوء ثغرة بين الحكم والقضاء من جهة وحمل الرئيس مبارك على ان يتساهل في مسألة حصانة القضاء التي عمل طوال عقدين على ان تكون احد اهم انجازاته. ولم يقتصر الامر على موضوع الدكتور سعد الدين ابراهيم وانما فاجأت الادارة الاميركية الرئيس مبارك باتفاق السلام بين الحكم السوداني وحركة التمرد. وليس هنالك إيلام على النفس المصرية أشد من الإيلام الذي يسببه اي اتفاق من وراء ظهر مصر ويكون السودان طرفاً فيه. وهذا الاتفاق الذي تم التوصل اليه وسرعان ما اصابته انتكاسة عابرة، لا يقتصر الاقلاق الذي ينتج عنه على الناحية المعنوية وانما يثير في النفس المصرية المخاوف من ان يكون هذا الاتفاق المباغت بين سودان الحكم وسودان التمرد مقدمة بعد ست سنوات، هي الفترة الانتقالية المتفق عليها، الى انفصال الجنوب وقيام دولة في الجنوب لا تتحكم فقط بالتقاسم المتعارف عليه لمياه النيل، وانما تؤسس مستقبلاً لكيان قبطي في مصر يشكل مع دولة الجنوب، المحتمل افتراضاً قيامها، واثيوبيا مثلثاً مسيحياً لن يكون في اي حال سوى حالة إقلاق دائمة لمصر.

وفي سياق الحديث عما فعله الطباخ الاميركي الماهر تجدر الاشارة الى ان التوقيت الذي تم فيه اتفاق السلام في السودان ليس بريئاً. كما ان الانتكاس السريع الذي اعقب الاتفاق يثير الشبهات ويجيز لنا الافتراض بأن الغرض من الانتكاس هو الضغط على السودان كي لا يكون عند توجيه الضربة الى العراق ذلك الـ«سودان» الذي عرفه العراق في فترة «عاصفة الصحراء» عام 1991 ثم في سائر سنوات الحصار عمقاً سياسياً وتموينياً للحكم العراقي.

ثم هنالك التهويل ضد المملكة العربية السعودية الذي يتسم بالافتعال من جانب اوساط شريرة ومتصهينة داخل الادارة الاميركية وايضاً من جانب هيئات ومنظمات غير رسمية كانت مهمتها، اضافة الى تزويد وسائل الإعلام من صحف واذاعات ومحطات تلفزيون وفضائيات بمعلومات واخبار تسيء الى المملكة، نشر اعلانات في بعض المطبوعات الاميركية هي عبارة عن مادة تحريرية مدفوعة الأجر وبسخاء. وما يلفت الانتباه ان هذه الحملة من التهويلات تصاعدت بعدما احدث الموقف السعودي الرافض للحل الحربي الاميركي مع العراق ارتياحاً على الصعيدين العربي والاسلامي وبالذات على الصعيد الخليجي. بل قد يجوز القول ان الاجماع الذي تميّز به موقف مجلس الجامعة العربية في دورته العادية نصف السنوية، وفي اتجاه رفض الضربة الى العراق واعتبار العدوان عليه بأنه عدوان على كل دولة عربية، جاء كصدى للإجماع الذي اتسم به موقف دول مجلس التعاون الخليجي الذي عبّر عنه بكل الوضوح وزراء خارجية دول المجلس الذين اجتمعوا في جدة ثم توجهوا منها الى القاهرة فإلى نيويورك للمشاركة في الدورة السنوية للجمعية العامة للامم المتحدة مزوَّدين بهذا الموقف الجديد كمضمون وكشعور ملموس بالمخاطر.

وعلى رغم توضيحات كثيرة من المملكة اتسمت في معظمها بالنصيحة والدعوة الى التعقل واعتماد الحكمة، إلاَّ ان التهويل على المملكة تواصل بكل الوسائل التي اشرنا اليها. والغرض من ذلك هو أن تعيد المملكة النظر في موقفها. ولكن كيف يمكن ان تحدث اعادة النظر هذه ما دامت الضربة التي يكثر التلويح بها هي قرار دولة واحدة لا علاقة للأمم المتحدة به، ومعنى ذلك ان التأييد للضربة انما هو مباركة للعدوان وهو ما لا ينسجم مع موقف المملكة الذي أخذ به وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي عند اجتماعهم في جدة.

وإلى هنا كان الطباخ الماهر يواصل إعداد طبخته التي لها مستلزمات اخرى.