استحقاق 27 سبتمبر: شفافية أم ضبابية؟

TT

لقد كتب الكثير وقيل الكثير حول استحقاقات 27 سبتمبر (ايلول)، ولقد قامت جريدة «الشرق الأوسط»، مشكورة، بنشر مجموعة من المقالات تعبر عن جل الحساسيات السياسية المغربية مساهمة بذلك، في تقريب التجربة المغربية، بإيجابياتها وسلبياتها من القارئ العربي، عسى أن تساهم في نشر الديمقراطية عبر الوطن العربي، كل حسب خصوصياته، وظروفه وتاريخه.

انطلاقا من هذه الملاحظة، لن أتطرق في هذا المقال المتواضع إلى الإصلاحات القانونية التي تمت بالتوافق بين جميع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، والمتعلقة بنمط جديد للاقتراع، ومراجعة اللوائح الانتخابية، والتقسيم الانتخابي، واللائحة الوطنية الخاصة بالمرأة لضمان ثلاثين مقعداً لهن على الأقل في البرلمان.

كل هذه الأشياء أصبحت معروفة لدى قارئ «الشرق الأوسط» فلا داعي لتكرارها. ولذلك سأكتفي هنا ببعض الملاحظات.

إن قرار تنظيم الانتخابات التشريعية في وقتها المحدد في إطار من الشفافية والمصداقية، قرار ملكي، علماً أن المكونات الأساسية للحكومة كانت تتمنى تأجيل الانتخابات سنة أو سنتين، نظراً لشعورها بعدم توفرها على نتائج ملموسة جديرة بضمان تجديد الثقة في الأغلبية الحالية أو في الحزب الحاكم الأساسي.

فجاء القرار الملكي لوقف التأويلات والإشاعات التي كان يروجها البعض حول احتمال تأجيل موعد الانتخابات.

فالقرار الملكي كان قراراً حكيماً لأنه أزال عائقاً مهما في مسيرة المغرب التي تتميز بالانتظارية والجمود الاستثماري والاقتصادي الذي يواكبها من جراء ضبابية المشهد السياسي، وعدم وضوح الرؤية على المدى القريب والمتوسط. كما تم إيجاد إجراءات عملية وتنظيم حملة إشهارية لتقريب العملية الانتخابية بجميع تعقيداتها من المواطن العادي، والكل في إطار التوافق بين الأغلبية والمعارضة، كما تم في نفس الإطار، فتح قنوات الوسائل السمعية البصرية للأحزاب المشاركة في الانتخابات حتى تتمكن من التعريف ببرامجها حسب مقاييس تم الاتفاق عليها في لجنة خاصة ساهمت في أشغالها جل الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات، إلا أن الحكومة، أو بالأحرى بعض مكوناتها، حصلت على امتيازات إعلامية إضافية بطريقة غير مباشرة، حيث استمرت الوسائل السمعية البصرية العمومية، ولمدة طويلة، سواء قبل الانتخابات وحتى أثناء الحملة الانتخابية بتغطية مكثفة، لتنقلات ونشاطات الوزير الأول وبعض الوزراء، من تدشينات لمشاريع، ربما لن تتعدى مرحلة التدشين.

وأسوق في هذا الصدد مثالا واحدا، يتجلى في تغطية اعلامية من طرف القناة الأولى للتلفزيون المغربي، لانعقاد المجلس الأعلى للوظيفة العمومية في الأيام الأخيرة برئاسة الوزير الأول ووزير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، والذي هو مرشح في نفس الوقت لمنصب برلماني، مغتنما هذه الفرصة للحديث عن المجلس المذكور الذي كان له الفضل، حسب قوله في قيامه ولم شمله. علما أنه كان بالإمكان انتظار مرور الحملة الانتخابية لاستدعاء أعضاء المجلس.. بما أن المجلس لم يجتمع منذ أربعين سنة.

ألم يكن بالامكان انتظار 15 يوما إضافية؟

لكن الهدف الاشهاري والمناورة السياسوية المصحوبة بالتوظيف الاستثنائي لوسائل الاعلام، كان هو الهاجس الحقيقي الذي حرك الوزير الأول الاشتراكي والوزير الاستقلالي.

فالأمثلة كثيرة في هذا الصدد، بالإضافة إلى تعود القنوات التلفزيونية، وخاصة القناة الثانية، ولمدة طويلة، على دعوة شخصيات سياسية وثقافية يسارية أو موالية للحكومة، لاجراء حوارات ولقاءات معها، مما حدى بالمعارضة وبحزب الاتحاد الدستوري بالخصوص، الى المطالبة بالتعجيل بتأسيس المجلس الأعلى للوسائل السمعية ـ البصرية لتدبير المجال الإعلامي بموضوعيه. وفي انتظار تأسيس هذا المجلس طالبت المعارضة بتمكين لجنة الاعلام الخاصة باستعمال الوسائل السمعية - البصرية أثناء الحملة الانتخابية، من التصدي لهذه الخروقات، إلا أن الحكومة رفضت المطلب معللة ذلك، بعدم اختصاص اللجنة السابقة الذكر، هادفة من جراء ذلك، تهميش اللجنة، وحصر اختصاصاتها، عبر منظور كمي، في توزيع الحصص الزمنية بين الأحزاب. وهذا السلوك يبين أن الحكومة كانت تخطط لتوظيف الوسائل السمعية ـ البصرية لصالحها.

ثم هناك حيف آخر، يتجلى في دأب بعض المنابر الإعلامية الداخلية المتعاطفة مع اليسار، كجريدة «الأحداث المغربية» أو المنابر الإعلامية الصديقة والصادرة بباريس مثل مجلة «جون أفريك Jeune Afrique»، تشير إلى فوز الأحزاب الحكومية في استحقاق 27 سبتمبر.

كل هذا بهدف التأثير على الرأي العام، مع العلم أن التحالف الحكومي عمد إلى تجنب تقنين تنظيم استطلاعات الرأي ونشر نتائجها إبان الحملات الانتخابية، خلافا لما هو موجود في بعض الدول الأجنبية.

لست بطبيعة الحال ضد استعمال هذه التقنية لكن في إطار ضوابط قانونية وأخلاقية، حفاظا على حرية الرأي واستقلال القرار.

وتجدر الإشارة إلى أن أحد الأمناء العامين المشاركين في حكومة التناوب التوافقي بعث برسالة إلى وزير الداخلية ووزير الثقافة والاتصال، يدعوهما فيها الى ضرورة وقف نشر نتائج استطلاعات للرأي إبان الحملة الانتخابية.

هذه الوقائع تؤكد على أن الحكومة الحالية هي أغرب حكومة عرفها المغرب وستكون بدون شك، محط اهتمام الباحثين في العلوم السياسية في السنوات المقبلة، حكومة مكونة من سبعة أحزاب بغير قواسم مشتركة، تنطلق مكوناتها من «اليسار الاشتراكي» إلى «اليمين المحافظ»، مروراً بألوان أخرى محسوبة على «اليمين المعتدل» و«الوسط».

وما من شك أن هذا التكوين المتناقض كان من أسباب ضعف آداء الحكومة وهزالة النتائج، كما كان ومازال، من أسباب ضبابية المشهد السياسي المغربي، حيث ظلت بعض الأحزاب المشاركة في الحكومة حتى الآن، تنتقد هذه الأخيرة وتحاول أن تتبرأ منها ومن حصيلتها.

أضف إلى ذلك أن الأفكار والمدارس والمناهج باتت غير واضحة في ذهن المواطن، الذي لم يعد يميز بين «اليمين» و«اليسار» بين «الليبرالي» و«الاشتراكي» بين «اليمين» و«الوسط» بين «التعادلي» و«المحافظ» بين «الاصلاحي» و«المتطرف» بين «الإسلامي» المشارك في الانتخابات و«الإسلامي» الرافض للمؤسسات الديمقراطية.

لقد أصبح الجميع يتغنى بالليبرالية والخوصصة واقتصاد السوق بينما كان البعض والى تاريخ قريب يقاوم كل هذه المفاهيم، متبنيا تأميم الشركات الخاصة، ومدافعاً عن الاقتصاد العمومي الموجه، ومتحديا في أدبياته «البورجوازية» و«الأوليجارشية».

أكيد أن المشهد السياسي المغربي، وهو مازال يتعزز بأحزاب جديدة، في حاجة إلى إعادة التركيب، وتوضيح المواقف المذهبية، ليتم ضبط وتموقع الأحزاب السياسية في قطبين أو ثلاثة أقطاب أساسية، كما أكد على ذلك الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله قبل بضع سنوات من وفاته، علما أن عدد الأحزاب إذاك، كان أقل بكثير مما هو موجود الآن.

إن هذا الخلط من شأنه أن يعقد مهمة الناخب المغربي، لاسيما أن كل شيء أضحى جديداً انطلاقا من نمط الاقتراع، وأسلوب التصويت، وعدد الاحزاب مرورا بتشابه البرامج وانتهاء بنوعية الإئتلاف الحكومي المقبل.. ولعل هذه الضبابية رغم المجهود الذي تقوم به وزارة الداخلية على مستوى التحسيس، من شأنها أن ترفع الناخب إلى التشبت باختيار المرشح انطلاقا من شخصه وشخصيته، بدلا من انتمائه وبرنامج حزبه، الشيء الذي يتناقض مع النمط الجديد للاقتراع وتطلعات الديمقراطيين.

* عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الدستوري