رهانات تدبير الزمن السياسي

TT

هناك اليوم في المغرب حالة ترقب لم تشهدها البلاد منذ بداية الاستقلال، ذلك انه بالرغم من الانطباع السائد بأن المغاربة مطمئنون الى استقرارهم وثبات مؤسساتهم فانهم يعيشون قلقا حقيقيا قد لا يكون معبرا عنه بشكل واضح لكنه حاضر في الحياة العامة وقد يظهر من حين لآخر في شكل ازمات متفرقة، متفاوتة الخطورة.

ويرجع سبب هذا القلق الى عدة عوامل:

ـ اولها يرتبط بوضعية الانتقال التي تصل مع هذه الانتخابات الى نهايتها والكل يتساءل هل ستنتهي فعلا باقامة نظام سياسي طبيعي تتشكل فيه الاغلبية من صناديق الاقتراع وتشكل فيه الحكومة على اساس هذه الاغلبية ويطبق بمقتضى هذه الآلية برنامج واضح مرتكز على مقتضيات الدستور ومحترم لميكانيزمات العمل المؤسسي الديمقراطي ام ان الظروف التي ستلي الانتخابات ستدعو مرة اخرى الى توافق يعد بتمهيد الطريق مجددا للانتقال الى وضع طبيعي.

ان مبعث هذا التساؤل هو الخوف من انتخابات (تجريبية) ستجعل الناخب لأول مرة حرا طليقا امام صندوق الاقتراع، الشيء الذي لا يمكن التنبؤ معه بنوعية الاختيار الذي سيقوم به وطبيعة تأثيره على الخريطة السياسية. كما ان مبعث هذا التساؤل يرجع الى كون المرحلة الانتقالية التي عرفها المغرب في عهد حكومة التناوب اتسمت بوضع قواعد جديدة في العمل السياسي وخصوصا في تدبير الشأن العام وفي توزيع السلط. وكان تبرير هذه القواعد دائما هو حاجة المغرب الى مرحلة استقرار توافقي قبل مروره الى عهد جديد كل مرجعياته هي القواعد الدستورية الواضحة. ومن المؤكد ان مرحلة ما بعد 27 سبتمبر (ايلول) ستضع على الطاولة هذه (القواعد التوافقية) اما تمهيدا لوضعها في الدولاب واما تدشينا لمرحلة تفاوض سياسي بشأنها وكل هذا يثير نوعا من القلق والتخوف فيما يخص المستقبل بالنسبة لتطور المستقبل السياسي للمغرب.

ـ اما السبب الثاني لمناخ الترقب الذي نعيشه فيرجع الى كون المغرب قد عرف خلال فترة التناوب تمرينا جديدا في معالجة مشاكله الاقتصادية والاجتماعية. ولا شك ان المجهود الذي بذل وحجم المطالب التي ما تزال دون جواب قد اعطى للطبقة السياسية في المغرب فكرة واضحة عن التحديات التي تنتظر كل حكومة مهما كانت طبيعتها. ولعل الجميع قد اصبح اليوم مقتنعا بأن الحلول المقترحة لمشاكل المغرب يجب ان تسجل في مدى زمني يتجاوز مدى الاستحقاقات الانتخابية. فلا احد يستطيع اليوم ان يربح رهان التنمية ورهان الاصلاح الاجتماعي ورهان محاربة الفقر والامية والسكن غير اللائق في فترة تشريعية واحدة بل وحتى في فترتين. ان الامر يتطلب بكل تأكيد مدى طويلا يستشرف العشرين سنة. ومعنى هذا ان البلاد تحتاج لاكثر من برنامج انتخابي، انها تحتاج الى مشروع وطني ضخم تعبأ له الكفاءات وتعاد فيه هيكلة العائلات السياسية وتقترح على المغاربة مشروعا نهضويا معبئا ومفجرا للآمال والطاقات، ومن البديهي ان مشروعا بهذا الحجم لا يمكن ان ينشأ عن وضع سياسي هش وغير متجانس.

ـ السبب الثالث لهذا القلق يكمن في مسألة لا يحب المغاربة كثيرا ان يخوضوا فيها وهي مستقبل التطرف في المغرب. لقد دأبت النخب السياسية والثقافية في المغرب على التقليل من خطورة هذه الظاهرة التي يعرفها العالم العربي والاسلامي بشكل متفاوت الحدة باعتبار الخصائص السوسيو ـ ثقافية للمغرب والتي لا تسمح نظريا بانزلاقات خطيرة في هذا المجال. ومن هذه الخصائص: امارة المؤمنين ووحدة المذهب وحضور السلفية الوطنية والتأطير المحكم للمؤسسات الدينية.

بيد ان التطورات التي شهدتها الظاهرة واتساع حقل الحرية الذي اصبح مرتعا خصبا لها واستثمار الاسلام السياسي والمؤسسي المغربي، كل ذلك ايقظ نوعا من التوجس من ان تصبح الديمقراطية وهي نية طيبة بدون شك طريقا الى الجحيم.

ان الديمقراطيين في المغرب يعرفون جيدا ان هذه الظاهرة ستعيش معنا لسنوات طويلة اما كواقع لنا يرتفع او كسيف مسلط على رقابنا. لذلك لا مناص من تدبير الظاهرة وذلك على ثلاثة مستويات:

ـ المستوى السياسي الذي يجب ان يعيد المصداقية والفعالية للمؤسسات السياسية وان يعيد ربطها بجذورها الاجتماعية وان يجعلها قادرة على التدخل والتأثير واتخاذ الاجراءات الشجاعة.

ـ المستوى الاقتصادي وذلك بخلق نمو سريع ومنتظم ومستمر ينجح في امتصاص البطالة وفي محاربة الفقر وفي توفير السكن اللائق.

ـ المستوى الثقافي والاجتماعي وذلك عن طريق معالجة اوضاع المرأة والشباب والطفولة واصلاح مناهج التربية والتكوين واعادة بناء الهوية المغربية على اساس منفتح يمكن الناس من معرفة جذورهم ومن الانخراط في عصرهم.

ان تدبير الظاهرة على هذه المستويات امر مرتبط بالمشروع النهضوي الذي تحدثنا عنه آنفا، ولكونه كذلك فان النتائج المرجوة منه لا ينتظر تحقيقها في وقت سريع. هكذا نرى ان تدبير الزمن السياسي لا يتلائم بالضرورة مع تدبير الزمن النهضوي. اننا نسابق الزمن من اجل طي مرحلة الانتقال، لاننا نعتبر كل تباطؤ في هذا الشأن معرقلا لمشاريع حاسمة مثل التي نتحدث عنها. وفي نفس الوقت فاننا نعرف ان نجاحنا في تدبير هذا الزمن السياسي ليس سوى خطوة اولى على درب البناء الوطني الذي طلبت جهدا كبيرا وتعبئة استثنائية، من هنا هذا الترقب وهذا التصور لان كل خطأ مهما كان صغيرا في هذا التدبير سيرجعنا الى الوراء وقد يصيبنا بأخطر من ذلك.

لقد عرفت كثيرا من الاستقلالات السياسية في بلداننا العربية الاسلامية انطلاقات سيئة كانت وراء عدة ازمات ما نزال نجر نتائجها الى الآن، فقد اخطأنا موعدنا مع الديمقراطية ومع التنمية معا، وامضينا وقتا طويلا في معالجة آثار ذلك على نسيجنا السياسي والاجتماعي، وليس من حقنا ان نرتكب انطلاقات سيئة اخرى ونحن نبني اسس الدولة الحديثة، لذلك يشكل هذا الاستحقاق الانتخابي منعطفا سياسيا خطيرا، ففيه سيلتقي المغاربة بمواعيدهم الاساسية ومن اكثر المواقف رمزية في هذا الاستحقاق. هو ان الملك محمد السادس سيتخذ بعده اولى قراراته التأسيسية في المجال السياسي. فسيفتتح اول برلمان انتخب في عهده وسيعين اول حكومة منبثقة عن اغلبية جديدة في عهده. ومن المؤكد ان تطلع المغاربة يتجاوز بكثير الدلالات الشكلية لهذه المواعيد. ان المغرب ينتظر ميلاد روح جديدة ربما انتظرها طويلا طيلة فترة الاستقلال.

* عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي ووزير الاتصال والثقافة