وزارة الداخلية ومسؤولية بناء مصداقية المؤسسات

TT

سأتناول الانتخابات التشريعية المغربية ليوم 27 سبتمبر (ايلول) الجاري ليس من الزاوية النظرية القانونية أو السياسية ولا من زاوية المشهد السياسي أو الآثار السياسية التي ستترتب عنها، أو الخريطة التي ستفرزها، ولكن سأتناولها من الزاوية العملية الميدانية والمعاينة اليومية باعتباري مرشحا عن حزب «العدالة والتنمية» في دائرة بني ملال. فمن الناحية العملية سواء تعلق الأمر بالمرشحين أو بالناخبين فإن الثقافة والسلوك السياسيين لم يتغيرا عما كان عليه الأمر في انتخابات .1997 ونفس الشيء يمكن أن نقوله أيضا عن السلطات المحلية على الأقل قبل أن تصدر عن وزير الداخلية التعليمات الأخيرة الداعية الى حياد السلطة وقبل أن تتخذ. وكان نصيب إقليم بني ملال منها وافراً حيث تم عزل قائدين لانخراطهما بطريقة غير مباشرة في حملة انتخابية لفائدة بعض المرشحين.

في ما يتعلق بالأحزاب السياسية والمرشحين ما زلنا نلاحظ أن الاحزاب تساير الثقافة الاجتماعية وتلجأ في آلية الترشيحات الى اعتبار الولاءات والانتماءات القبلية، وهو الشيء الذي أدى كما أدى في الانتخابات السابقة الى إعطاء تزكيات لأشخاص لم تكن لهم أية علاقة، آيديولوجية أو فكرية أو تنظيمية بالحزب، ورغم الاقتراع باللائحة يفترض فيه أنه اقتراع للحزب السياسي والبرنامج السياسي، إلا أننا نلاحظ أن التنافس أو الصراع لا يزال مبنيا على اعتبار الاشخاص وخاصة رأس اللائحة، إذ أن الأحزاب نفسها في حملتها الانتخابية لا تركز على اللائحة وبرنامجها بقدر ما تركز على رأس اللائحة وتسلم مبدئيا بأن حظوظها مختزلة في التنافس على نيل مقعد واحد، أي رأس اللائحة، مما يجعلنا نستنتج أنه على الرغم من تغيير نمط الاقتراع، أي من الاقتراع الفردي الاحادي الى نمط الاقتراع اللائحي، فإن منطق الاقتراع، الفردي الاحادي لا يزال هو المهيمن ليس فحسب بسبب ما يمكن أن يؤاخذ على نمط الاقتراع اللائحي، من سلبيات ومنها تقليص اللائحة احيانا لتشتمل فقط على مرشحين، ولكن لكون الثقافة السياسية الكامنة وراء العمليات الانتخابية لم تعرف أدنى تغيير حزبي. وهنا تتحمل الأحزاب السياسية المسؤولية الأولى لقصورها في مجال التأطير ولكونها تعتمد التأطير الموسمي الذي يتزامن مع الحملات الانتخابية.

وفي الارتباط بهذه الملاحظة فإن وسائل التأثير المعتمدة في الحملة الانتخابية التي تقوم بها معظم الاحزاب واللوائح لا تزال تعتمد الأساليب العتيقة ومنها السعي الى إفساد الناخبين عن طريق الاموال والهدايا والرشاوى المباشرة وغير المباشرة.

صحيح أن الاقتراع اللائحي واعتماد الورقة الفريدة سيقللان نسبيا من تأثير هذا العامل، ولكننا من خلال المعاينة اليومية، وخلال الحملة وقبلها، وقفنا على أساليب متعددة من السعي لإرشاء الناخبين من خلال استخدام بعض رؤساء المجالس البلدية لنفوذهم وتسخير ميزانيات المجالس لتقديم بعض «الخدمات» في الاشهر الاخيرة أو تقديم بعض الوعود لجلب الماء الشروب أو الكهرباء أو تعبيد بعض الطرق في البادية أو تجهيز بعض الاحياء الهامشية بشبكة الصرف الصحي.. وهلم جراً، علما أن مثل هذه الأعمال لا تدخل في اختصاصات النائب البرلماني بل تدخل ضمن اختصاصات المجالس الجماعية المحلية.

صحيح أن وزارة الداخلية أصدرت تعليماتها في هذا المجال، وأوقفت بعض المحاولات في هذا الصدد، ولكن ينبغي الاشارة الى أن ثقافة الإفساد الانتخابي وآليات هذا الافساد متمكنة لدى كثير من المرشحين المحترفين في هذا المجال، وهم يطورون في كل يوم أساليب جديدة للإفساد من أجل تجاوز الاجراءات القانونية والآليات الانتخابية المرتبطة بهذا النمط مثل الورقة الفريدة. وهناك أحاديث كثيرة حول «تقنيات» جديدة مبتدعة للالتفاف على هذا الاجراء تمكن من استمرار التأثير على إرادة الناخبين من خلال استعمال المال أو الوعود بتقديم خدمات مختلفة مثل الخدمات التي تمت الاشارة إليها سالفا.

على أن الخصم الأكبر لتطور الممارسة الديمقراطية في المغرب والذي يمكن اعتباره خصما عنيداً لجميع الاجراءات والتدابير المتخذة أو التي يمكن أن تتخذ في المستقبل هو تفشي نسبة الأمية، سواء أمية القراءة والكتابة أو الأمية السياسية، تضاف إليها الأوضاع الاجتماعية المزرية والتهميش التي تعاني منه غالبية المواطنين سواء في القرية والبادية أو على مستوى أطراف المدن الكبرى، حيث نشأت «مدن» مرعبة تشكل حزاما للفقر والاحباط تنمو فيها كل أشكال التطرف الخلقي أو السياسي أو الديني وأقصد هنا بالتطرف «اليأس» من الاصلاح و «الكفر» بالعملية الانتخابية وانعدام الثقة في مجمل العملية السياسية وفي المؤسسات المنتخبة.

إنك حينما تتجول في هذه الاحياء كمرشح يسعى لمخاطبة المنتخبين ببرنامج انتخابي أو سياسي، فإنك تشعر من خلال نظرات الناس بالشك والنفاق والانتهازية. معركتك في هذه الحالة ليست مقارنة لبرنامج ببرنامج أو فكرة بفكرة أو توجه بتوجه، ولكنها معركة ضد اليأس وسعي لزرع الأمل وإعادة بعض المصداقية للعملية السياسية والانتخابية.

وفي هذه الأوساط سواء عند الشباب أو الشيوخ يمكن أن تميز بين فئتين: فئة ناقمة تواجه المرشحين أحيانا بلهجة حادة يائسة وتؤكد لنا أنها لن تصوت على أي مرشح، وتذكر بأنها خدعت خلال عدة اقتراعات، وخدعت حتى من مرشحي الاحزاب الاكثر ثورية وتقدمية، وها هي ذي التجربة تكشف كيف انقلبت على التزاماتها وتوجهاتها، وفئة ثانية تتعامل مع الحملة الانتخابية كمناسبة لانتزاع اكبر ما يمكن من مكاسب سريعة حيث تواجه في الاحياء الشعبية بجيوش من الشباب العاطل المستعد لكي يقدم «خدماته الانتخابية» والمساعدة في توزيع الاعلانات الانتخابية، بل لقد نمت ظاهرة لافتة للانتباه وهي أن أشخاصا نافذين في الاحياء الشعبية والقرى وخاصة من النساء يقدمون أنفسهم باعتبارهم «مفاتيح» لهذه الاحياء وجب المرور عبرهم للتأثير على الناخبين. هذه النقط السوداء التي تنتشر في الأحياء يركز عليها بعض سماسرة الانتخابات ومحترفي الافساد الانتخابي، وتضطلع بدور خطير في شراء الاصوات لصالح المرشح الذي يدفع أكثر، وفي بعض الأحيان «يؤكل» المرشح ويغرر به.

ورغم تداخل العوامل المؤثرة في تطور مسلسل الاصلاح الديمقراطي والانتخابي والعلاقة الجدلية بين فساد الناخب والمنتخب، أو هذا التواطؤ الضمني «الذي يجد تفسيره في فساد الاحزاب السياسية إلا ما رحم ربك، وضعف التأطير الحزبي، وشيوع الامية بمختلف اشكالها وألوانها، وعوامل الفقر والتهميش والاحباط الاجتماعيين، والشك المتجذر في مجمل العملية السياسية والانتخابية رغم الجهود الاعلامية التي تقوم بها وزارة الداخلية، فإن العامل الحاسم على الأقل في هذه التجربة هو مدى جدية الادارة في التزام الحياد الايجابي الذي أعلنت عنه.

فرغم الحملة الاعلامية الايجابية على شاشة التلفزيون وأمواج الاذاعة، ورغم التصريحات والالتزامات الرسمية، وبعض الاجراءات الزجرية التي اتخذت في حق بعض أعوان السلطة، إلا أن حالة من الشك والترقب لا تزال تسيطر على المواطنين والفاعلين السياسيين. وذلك شيء مفهوم وطبيعي لأنها حالة نشأت عبر تراكمات تاريخية كانت بطلتها وزارة الداخلية.

وبما أننا نتحدث عن الثقافة السياسية عند الاحزاب وعند الناخبين وعن سلبياتها وتأثيراتها على الاصلاح السياسي والانتخابي، وجب أن نتحدث أيضا عن الثقافة السلطوية التي تراكمت عند أعوان السلطة حتى صارت جزءا لا يتجزأ من السلوك اليومي لهؤلاء. كما ينبغي أن ننتظر مرور مختلف مراحل الحملة الانتخابية وعمليات الاقتراع والتصويت وعمليات الفرز، ونرى هل ستلتزم الادارة الحياد الايجابي خلال مختلف هذه المراحل. فإذا برهنت الإدارة على حيادها ونزاهتها ونالت النتائج الاعتراف السياسي لمختلف الاطراف، فإن ذلك سيكون بداية لميلاد مغرب جديد، وبداية لمسلسل إعادة المصالحة بين المواطن والعملية الانتخابية والمؤسسات المنتخبة، وستنال تلك المؤسسات آنذاك مصداقيتها ومشروعيتها، وستنال الحكومة المنبثقة عنها التأييد الشعبي اللازم كي تشرع في مسلسل الاصلاح.

وسيكون على الأحزاب السياسية آنذاك أن تتوفر على الجرأة السياسية للاعتراف للإدارة بحيادها وللاعتراف للانتخابات وللمؤسسات بمصداقيتها. وبما ان إفساد الانتخابات الماضية كان مسؤولية وزارة الداخلية، فإن المسؤولية الأكبر اليوم هي أيضا لوزارة الداخلية وللإدارة الترابية على جميع المستويات «وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

* أحد قياديي حركة الاصلاح والتجديد (الاصولية) المقربة من «حزب العدالة والتنمية»، ورئيس تحرير صحيفة «التجديد»