أهي مجرد أفكار أم مخطط جاهز لتحويل المنطقة العربية إلى منطقة شرق أوسطية؟

TT

من يتابع ما يكتبه هذه الايام المحللون السياسيون عبر العالم بما فيه الولايات المتحدة عن تطورات الازمة السياسية العراقية الاميركية لا بد ان يستوقفه ما تزخر به بعض التحليلات والدراسات من وجود تفكير او حتى مخطط استراتيجي متكامل لدى الادارة الجمهورية الاميريكية لصنع منطقة شرق أوسطية جديدة تقوم على انقاض النظام العربي الحاضر، بما ينزع عن المنطقة العربية طابعها العربي الاسلامي التاريخي، ويحولها الى منطقة شرق اوسطية متنوعة الاثنيات، متعددة الكيانات الهشة، متعارضة المصالح والتوجهات، قابلة اكثر مما هي عليه اليوم للعطب، وتابعة سياسيا واستراتيجيا للولايات المتحدة الاميريكية.

ومما حرره هؤلاء المحللون السياسيون سواء على اعمدة كبريات الصحف الاميريكية، أو في الصحافة الفرنسية والالمانية خاصة، وسائر الصحف الأوروبية تكتمل للقارئ صورة رهيبة عما يُفكّر فيه أو يُدبَّر من خلف الستار للمنطقة العربية عقابا لها على اتهامها بالارهاب، هذا الاتهام الذي أصبح وحده كافيا للإدانة والتجريم بارتكاب الارهاب طبقا للتعبير الفرنسي المشهور: «يكفي لمن يريد قتل كلبه بإغراقه في البحر ان يقول عنه إنه مسعور».

ومن يُروًّجون لهذه الافكار ولو بَقُوا في مستوى التنظير والتحريض، أو هذا المخطط الجهنمي ان كان قد اكتملت له شروط الاعداد يحكمون على المنطقة العربية بالسّعار، ويرشحونها للرمي بها في عمق البحر.

آخر من قرأت لهم في هذا الموضوع الكاتبان «آلان فْراشون» Alain Frachon ودانييل فيرني Daniel Vernet اللذان نشرا بتوقيعَيْهما مقالا بجريدة «لوموند» الباريسية بعنوان «المدرسة الامبريالية الاميريكية الجديدة» استهلاّه بمقدمة مما جاء فيها: «إن الادارة الجمهورية الاميريكية لا تحصر اهتمامها فقط في الهجوم العسكري على العراق، ولا في اطاحة نظام صدام حسين، ولا في تدمير ما قد يكون يمتلكه من اسلحة التدمير الشامل، بل الاهم عندها فوق ذلك كله هو طرح أوراق جديدة للعبة سياسية استراتيجية بالشرق الأوسط لاقامة نظام آخر للمنطقة على انقاض نظامها الحالي ترضى عنه الولايات المتحدة ويحقق لها مطامعها الاستراتيجية». واضاف الكاتبان ان هذا المخطط يروج له بعض اعضاء حاشية الرئيس بوش بالبيت الابيض.

وفي مقتطفات من الصحافة الاميريكية منقولة الى اللغة الفرنسية قرأت ان ادارة الرئيس بوش وصلت الى البيت الابيض وهي تفكر في انزال ضربة قاتلة للعراق، (أي قبل هجمة 11 سبتمبر الارهابية)، لأنها كانت مقتنعة بأن الرئيس بوش الأب ارتكب خطأ فادحا حين لم يتابع زحفه على العراق في حرب الخليج الأولى سنة 1991 للاطاحة بالنظام العراقي، وان ما انصرف عنه الوالد لا بد ان يحققه الابن بكل شجاعة ومسؤولية.

يظهر ان بعض اعضاء حاشية الرئيس قد نظَّروا هذه الافكار (أو المخطط) ووضعوها تحت مظلة «اقامة نظام ديمقراطي جديد» تُراجَع فيها بعض هَنات النظام الديمقراطي المتعارَف عليه الذي تميز بالتساهل والتراضي حيال الانظمة غير الديمقراطية، كما تمثل في ترك النظام العالمي الذي جاءت به منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 يسود العالم، ويعلي آليات عمله على سيادة الدولة الوطنية ومن بينها القانون الدولي. وذلك ما يشكل احيانا مساً بمصالح الولايات المتحدة، ويقف عائقا لبسط حضارتها على العالم.

ويرى هؤلاء المنظِّرون ان نشر الديمقراطية الجديدة بوسيلة الدعوة الحضارية إليها والتبشير السلمي بها قاصر عن أداء مهمته، وان لا مناص من فرضها على مناهضيها بواسطة القوة مما يجعل من هذا النظام نظاما مَرِناً ولكن قويا وحازما ومرهوبا. وعلى هذا النظام اطلقوا اسم «عقيدة بوش» على غرار «عقيدة أيزنهاور» و«عقيدة ترومان».

والرئيس الاميريكي آمَنَ ـ على ما يبدو ـ بوجاهة هذه العقيدة وأصبح يحس بأنه صاحب رسالة مطلوب منه تبليغها وفرضها على العالم. وهو يتصرف على ضوئها بانفعال وحماس في تعامله الدولي بعامة ومع العالم العربي الاسلامي بخاصة. وهو يضع في سقف اولوياته المنطقة العربية كحقل تجربة، وينظر الى «الديمقراطية» الاسرائيلية القوية الحازمة على انها القدْوة التي ينبغي ان تُحتذَى، لأنها تحسن «الدفاع عن نفسها» بالقوة والرعب، مما جعل منها ديمقراطية قوية وحازمة. ومن اجل ذلك يجد نفسه في نفس خندق اسرائيل لتطابق الآيدلوجيتين أو التقائهما على قاسم مشترك واحد.

لذا فلا مكان في المنطقة العربية لا لحكم عرفات، ولا لحكم صدام، ولا لدولة فلسطينية عربية مستقلة، ولا حتى للنظم التقليدية العربية المتوارَثة بجميع ابعادها السياسية والدينية والاجتماعية التي تمنعها مفاهيمها اللاديمقراطية من الانخراط في منظومة الديمقراطية الجديدة.

ويذهب منظّرو البيت الأبيض في تحليلهم الى حد اعتبار ان تساهل العهود السابقة في الولايات المتحدة مع النظم العربية القائمة بالمنطقة وتوفير حمايتها للنظم التي كان يطلق عليها نعت المعتدلة واعتبارها حليفا موضوعيا لاميريكا، كل ذلك لم ينتج عنه إلا استقرار وهمي استفادت منه هذه النظم وحدها، ولم تستفد منه الولايات المتحدة شيئا. بل على العكس تبين ان بعض هذه الاقطار كانت وراء الارهاب الذي اعتدى على واشنطون ونيويورك، لأن اغلبية من دبروه في الخفاء كانوا مواطنين سعوديين أوَّلا، فمصريين ثانيا، ثم عرباً آخرين.

ويضيف هؤلاء المنظرون بأن العراق سيكون حقل التجربة الأولى لفرض هذه الديمقراطية، وسيستفاد من تجربته لفرض امثالها على ايران، فسوريا، فالمملكة العربية السعودية، ثم بقية دول المنطقة العربية على التوالي:

وقرأت لمحللين سياسيين اميريكيين قولهم: «ان العراق سيُخضَع لهذه التجربة على غرار تجربة الولايات المتحدة مع كل من المانيا واليابان، إذ بعد اخضاعهما بالقوة في نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 امكن تخليقهما وتربيتهما على المبادئ الديمقراطية الاميريكية، واصبحتا حليفتين للولايات المتحدة. وإذا كان ذلك قد تطلب من الولايات المتحدة حضورا عسكريا فوق ارض اليابان لمدة تقارب الستين عاما والى اليوم حيثما ما تزال للولايات المتحدة معسكرات بها، فإنه يمكن ان نفكر في إقامةٍ عسكريةٍ بالعراق لمدة عشرين سنة أو أكثر الى ان تحقق له التمتع بنظام ديمقراطي متطابق مع توجهات الولايات المتحدة.

والافكار الجديدة تتحدث عن إتْباع ضرب العراق وتنحية نظامه بتقسيمه واقامة كيان كردي فيه، وتوزيعه بين كيان سني وآخر شيعي، واعطاء تركيا جزءا منه يشمل منطقة الموصل وكركوك حيث توجد منابع البترول، مقابل ان تنخرط تركيا في المنظومة الديمقراطية الاميريكية وتساعد على تجريد المنطقة من طابعها العربي.

وبخصوص المملكة العربية السعودية يفكر هؤلاء المنظّرون في تقسيمها باقامة كيانين احدهما علماني في مناطق البترول، وكيان اسلامي يبسط سيادته على مكة والمدينة، ويسهر على خدمة الحرمين الشريفين على غرار وضعية الفاتكان بروما، بينما الكيان الثالث يبقى مفتوحا لمن يرد عليه من المستوطنين الاجانب المعتنقين لديانات أخرى مسيحية ويهودية وغيرهما.

ويرى بعضهم انه لتحويل المنطقة من عربية الى شرق اوسطية متعددة الديانات والاعراق يمكن ادماج ايران في المنظومة الجديدة بعد تأهيلها وتخليقها. والسودان في هذه الافكار مرشح للتقسيم بين سودان شمالي مسلم، وجنوبي مسيحي، كما ان مصر سيطولها التقسيم بين كيانين مسلم وآخر قبطي مسيحي.

هذا المخطط الرهيب يستخلصه كل من يتابع الصحافة الدولية هذه الايام. وأملي ان يبقى مجرد تكهنات صحفية يثبت البحث زيفها، لكن ما يكتب عن هذا المخطط يفرض ان يشد اليه من الآن اهتمام العالم العربي الاسلامي، وان يكون موضوع رصد ومتابعة من خبراء الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي، على ان يُعهد بذلك الى خلية متخصصة تنشأ لهذا الغرض في المنظمتين معا، وان تعقد ندوات ولقاءات فكرية لبحثه وتحسيس الرأي العام الدولي بخطورته وخطره، وان يتعامل معه العالمان العربي والاسلامي بمنتهى الحيطة والحذر، ويعالجاه بالديبلوماسية الوقائية لتلافيه واحباطه.