متى... وبعد كم انتفاضة قادمة ؟!

TT

عامان على انتفاضة الأقصى عندما رُجم جند بني صهيون بأحذية المصلّين في باحة المسجد المقدس.

لقد تابعت أطوار الانتفاضة الثانية عبر سلسلة من المقالات المتواترة نشرتها في «الشرق الأوسط». كتبتُ «شالوم عليكم»، ووعد كلينتون ومقترحاته «حين كاد يمضي عقد، وقتها، 1999، منذ عقد مؤتمر مدريد للسلام.. ولا سلام، اذا استثنينا معاهدة «وادي عربة» سابقة التجهيز أصلا. أما مؤتمر كامب دايفيد ـ 2 ، برعاية إدارة كلينتون الذي وصفته «يديعوت أحرونوت» الاسرائيلية، بأنه «آخر الصهاينة»، فقد كان الفلسطينيون يفاوضون فيه، كما قال أحد أعضاء وفدهم، وفدين اسرائيليين، أحدهما يرفع العلم الاسرائيلي والآخر يرفع العلم الأمريكي!

كانت مقترحات كلينتون اسرائيلية صرفة ولم يكن كلينتون سوى مروّج لسلعة فاسدة!

روّج كلينتون انه قدم إلى الفلسطينيين وعدا بوطن، وربما اعتقد انه بذلك سيمحو آثار فعلته من على فستان مونيكا مستخدما كوفية عرفات.

لكن عرفات «خرب» كل شيء، رفض اللعبة. فثارت ثائرة كلينتون. وسقط مشروع الجنرال باراك في جعل الفلسطينيين كائنا طفيليا يقتات على وجود اسرائيل.

صاح اليمين الصهيوني متعجرفا: «الم نقل لكم»؟ أي: ألم نقل لكم إن الفلسطينيين ليسوا ناضجين بعد للسلام، لذا ينبغي، سلفا، تعليمهم «ثقافة السلام» قبل أن يكونوا «جديرين» به مع اسرائيل «الديموقراطية المتحضرة الوحيدة في الشرق الاوسط». الى آخر الدعاية الشايلوكية المقرفة.

ولأن عرفات رفض أن يكون مفصّلا حسب الطلب الصهيوني، أو شريكا تحت إشراف ضابط السلوك الأمريكي، سمح باراك عن سابق تصميم وترصّد، لشارون ان يدنس المسجد الأقصى، باعتباره مشعل نيران وصانع مجازر من الدرجة الأولى.

ومبكرا، منذ شهر الانتفاضة الأول انطلقت الدعاية الإسرائيلية في رسم صورة عرفات برسم الزعيم الذي بيده الحل والربط، لكنه مثل عديد من الزعماء العرب «من زمن بعيد ومن عالم آخر، اسير لشعاراته وأوهامه» وانه رفض عرض باراك السخي في كامب دايفيد الذي لم يقدمه ولن يقدمه رئيس وزراء آخر! وتطوع ليحمل عرفات مسؤولية فشل المفاوضات، روّج اليهود أن إسرائيل لا تجد شريكا للسلام، وعلى عرفات «أن يوقف الانتفاضة كما بدأها»، أو إن على إسرائيل «أن تنتظر حتى يتم تبادل الصفوف في المعسكر الفلسطيني، وهذا ليس ببعيد، زعيم جديد ابن جيل أبناء المناطق، عديم الخطابية العروبية لسنوات الخمسينات والستينات، ويعرف إسرائيل ونهجها..» وعليه جرى شطب صورة عرفات كشريك لـ«السلام الإسرائيلي» ونفض الغبار عن صورته القديمة، في نظر اليهود، بصفته زعيم «منظمة إرهابية». وبدأت المجزرة الصهيونية ضد الانتفاضة الناشبة «بأشكالها الشعبية وشبه العسكرية كمحاولة أخيرة لوضع المرآة أمام وجه الإسرائيليين والقول لهم : انظروا إلى أنفسكم لتروا أي نوع من العنصريين أصبحتم..» كما كتبت بشجاعة الصحفية الجريئة، عميرة هاس، في صحيفة «هآرتس» في نوفمبر ألفين. ويمكن القول، أيضا، إنها محاولة أخيرة لوضع المرآة أمام وجه العرب والقول لهم: انظروا إلى أنفسكم لتروا من أي نوع انتم ؟! وتابعنا تحرك الشارع العربي الذي ترك، لفترة قصيرة، انطباعا يوحي بـ «استيقاظ المارد» لكن ما لبثت تلك المظاهرات العاطفية الانفعالية ان خمدت كما تخمد «فشّة الخلق» ليرتكن أصحابها إلى متابعة مسلسل ذبح الفلسطينيين عبر الفضائيات العربية. والتأمت قمة العرب في القاهرة وانفضت، مسفرة عن بيان مثل كل البيانات القديمة ولم تخرج بشيء ملموس عدا قرارين عمليين اقترحهما ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بشأن دعم الانتفاضة معلنا عن حصة السعودية التي شكلت نصيب الأسد. ورفضت دول أخرى إصدار أية قرارات تضر بمصالحها في معاهدات السلام المعقودة والمساعدات والمعونات والاستثمارات الخارجية. وفور اختتام أعمال قمة القاهرة عّبر «نحمان شاي»،الناطق الرسمي باسم الحكومة الاسرائيلية، عن رضى حكومته عن بيان القمة الذي «تميز بالحكمة والعقلانية وأوضح لعرفات: أن العنف لن يوصله إلى شيء..» ثم انعقدت في الدوحة قمة المؤتمر الإسلامي التي انفضت، أيضا، عن كلام في كلام من دون ان تخرج بأفعال كما طالبها الأمير عبد الله بن عبد العزيز في كلمته التي وبخ فيها الولايات المتحدة الأمريكية على سياستها المنحازة لإسرائيل. ورفض في ما بعد ولوقت طويل زيارتها احتجاجا على انحيازها، فيما استمر حفل القتلة الصهاينة في الرقص على دماء الفلسطينيين.

وبعد أسابيع من انطلاقة الانتفاضة أظهرت استطلاعات الرأي الإسرائيلية أن 62 في المائة من الإسرائيليين يؤيدون استمرار «العملية السلمية» لكن أصحاب النسبة نفسها يفضلون نتنياهو وشارون (بالترتيب) على باراك بحسبان الأخير متهاونا مع الفلسطينيين. وهكذا ستستمر استطلاعات الرأي الإسرائيلي في عرض معدلات الشيزوفرينيا الصهيونية التي تنخر الوعي اليهودي الشقي الذي يرغب في السلام وشارون معا!..

وهكذا جاء شارون. وهو أفضل من يمثل الروح الصهيونية العنصرية النازية العفنة لدولة إسرائيل، المدللة من الغرب الأمريكي/ الأوروبي بحسبانها دولة فوق القانون الدولي!

جاءوا بشارون عله يئد الانتفاضة في مهدها. راهن غالبية اليهود عليه باعتباره طلقتهم الأخيرة لإسكات الحلم الفلسطيني وتحويله الى كابوس. فهو عندهم «منقذ إسرائيل، بطل ثغرة الدفرسوار»، و«مستر أمن» و«بلدوزر الاستيطان المقدس»، وهم يعتقدون أن الفلسطينيين الذين يعرفونه كمتعطش دماء سيرتعبون من وجوده على رأس السلطة، فيضطرون الى القبول بشروطه للسلام حسب تصوره، المبني على تحمّل إسرائيل لما سمّاه «آلام السلام» بالتنازل عن 42 في المائة من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ليقيم عليها الفلسطينيون دولتهم المنشودة ! لكن الفلسطينيين اثبتوا انهم غير معنيين بالرعب الذي قد يوحيه شارون للعرب. لقد وصلوا إلى نقطة اللاتراجع عن نيل حقوقهم كاملة، رغم القتل والتدمير والحصار والتجويع والتضييق وتخاذل الشقيق!

وجاءت قمة عمان 2001 على مرمى حجر من شعب معتقل في أوشفيتز الصهيونية، اعزل معزول في معازل تضيق بالتقطيع والهدم والتدمير، جائع، مهان، فريسة القنص والقصف والقهر اليومي!.

انفضت القمة عن كلام في كلام. واستمرت الانتفاضة في مجاهدتها لبني صهيون بصدور عارية لكنها تحتضن روحا خارقة للمستحيل، فيما كان الشارع العربي الذي بدا كأنه نفض عنه عزلته القطرية الضيقة، ينحسر ويتبلد، مبقيا على حراك خافت منزو في مواقع معزولة يغلب عليه التوجه السياسي الأيديولوجي المتجاذب ما بين الاسلاميين والقوميين، الخصمين اللدودين القديمين، وقد أصبحا اليوم حليفين لدودين، يتنافسان (في الباطن) على قيادة حراك الشارع السياسي العربي، مجمعين على اعتبار الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود لا حدود. وجاءت قمة بيروت، قمة مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية، التي تحولت الى مبادرة عربية للسلام لكنها بدون أنياب، إذ قدمت الجزرة وأسقطت العصا. وكان أن تلقاها الأمريكان بالإهمال، ورد عليها شارون بإحكام الحصار على عرفات وتهديم مقرات السلطة وبمزيد من تقتيل الفلسطينيين.

أما أمريكا في عهد بوش الابن، فقد أصبح كونغرسها فرعا للكنيست، وإدارتها تابعة لمكتب شارون. ولم يكن ينقص مأساة الفلسطينيين إلا ّ بن لادن الذي قسم العالم بين فسطاطين!

لقد جعلت، أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من أمريكا إف بي آي الكون، وصيرت بوش كاوبويا متحزما بالصواريخ، اصبح شارون في نظر إمبراطور الكون «رجل سلام»، بل ان بوش لم يجد غضاضة في ان يصبح ناطقا رسميا لحكومة النازيين الجدد في تل أبيب حتى طوّب عضوا في حزب الليكود بسبب خطابه المهين للفلسطينيين عندما شخصن قضيتهم العادلة في الخلاص من عرفات!

وتابعناه وهو يوظف محرقة البرجين لإنتاج إمبريالية جديدة بعقيدة جديدة، هي قديمة، عرفت في إدارة كلينتون بمبدأ أولبرايت القائل: «يحق لأمريكا أن تعمل مع المجتمع الدولي عندما تشاء وتتصرف بمفردها عندما تشاء» لكن هذا المبدأ لم يطبق وقتها، فجاءت أحداث 11 سبتمبر لتتلقفه إدارة بوش وتدغمه مع ما صار يعرف بعقيدة بوش «معنا أو مع الارهاب» وعلى هذا العيار البوشي وضعوا شارون «رجل السلام» في خانة «معنا» ووضعوا الفلسطينيين في خانة «مع الارهاب»، واصبح من ليس مع إسرائيل ليس مع أمريكا، وبالتالي أضاءوا الضوء الأخضر لدبابات اليهود وطائراتهم وصواريخهم وبلدوزراتهم وأحقادهم التلمودية السادية في إبادة الفلسطينيين باسم «محاربة الإرهاب».

وبعد ترقب و«تشوق» لخطاب بوش المنتظر على «أحر من الجمر» بشأن عرض تصور واضح عن خطة سلام تلبي القرارات الدولية، ومحددة بجدول زمني، جاء الخطاب المشبوه الذي أبهج اليهود حتى ان شارون نفسه طالب المبتهجين بإخفاء بهجتهم « حتى لا يساء للرئيس بوش والولايات المتحدة أمام العالم العربي..» ولم يكن بوش معنيا بغضب عربي فقاعي، وإنما هو معنيّ فقط بعدم إغضاب اللوبي اليهودي وحليفه اليمين الأمريكي المتصهين، حرصا على مستقبله السياسي ومستقبل حزبه في الانتخابات، وتحديدا، مستقبل شقيقه حاكم فلوريدا.

وبما أن العرب لا يفعلون شيئا سوى الجعجعة، فان إغضابهم لا يكلف شيئا سوى بيعهم السمك في البحر. ثم إن من شيمهم الكريمة انهم سريعو الغضب سريعو الرضا! وهكذا صارت قضية الشعب الفلسطيني المحتل المذبوح قضية إصلاح سلطته والبحث له عن زعيم لطيف وظريف مثل غيره من قراضايات روما الحديثة!

والآن، وعرفات يحشر في غرفتين وتقلم من حوله البنايات المحيطة بجرافات أمريكية عملاقة، يظهر من جديد كعادته في أحسن حالات رفضه عندما يحاصر، فينتفض شعبه ضد حصاره، ليبايعه، بالروح وبالدم (حقا)، زعيما ورمزا له رغم أنف شارون وبوش واللجنة الرباعية و...!

الآن، بعد عامين من انتفاضة الأقصى، وأكثر من 1800 شهيد، منهم نحو 350 طفلا، وعشرات ألوف الجرحى والمشوهين والمعاقين، آلاف البيوت المدمرة، وحصار وتجويع وإكراهات وإهانات يومية.. وتهاون عربي وصمت دولي!.

الآن، يمر عامان على المأساة، فإلى متى سيستمر الفلسطينيون، لوحدهم، في انتفاضتهم، تضحياتهم، نزيفهم، حصارهم، جوعهم، بكاء أطفالهم، نسائهم، شيوخهم، وهم على مرمى حجر منا! الى متى... وبعد كم انتفاضة قادمة؟!