تلكم آثارنا تدل علينا

TT

مأساتنا في فلسطين، هي البداية حين زرعت بريطانيا الشر المستطير ليتّسع نطاقه ويغطي أرجاء واسعة من الوطن العربي. لقد كان الانتداب البريطاني في فلسطين المصدر الرئيسي لتفكيك الروابط وغرس بذور الشكوك والتقوقع والعزلة بين قادة الأمة وشعوبها.

وتمكنت الحركة الصهيونية العالمية ـ في ظل تحوّلات طرأت في أعقاب حربين عالميتين أسفرت عن اقتسام منافع ومناطق نفوذ على امتداد المعمورة ـ من استصدار ما أطلق عليه بوعد بلفور لإنشاء وطن للشتات الإسرائيلي وتم اختيار أرض فلسطين مكاناً مناسباً لولادته ونشأته بعد إسقاط خيارات لبدائل في افريقيا.

ومنذ إعلان الوعد البريطاني المشؤوم الذي عبّر عن التقاء رغبات ومصالح وأهداف دول أوروبية والولايات المتحدة بالتضامن مع الحركة الصهيونية.. اتسع نطاق عمليات تهجير يهود الشتات من أصقاع العالم إلى فلسطين. واندفعت في مرحلة لاحقة حكومات عربية من منطلق «الفيد»** والغنيمة، وسمحت تحت وطأة نفوذ وضغوط زعامات في بريطانيا وفرنسا وأمريكا موالية للصهاينة، بنقل مئات الألوف من يهود المغرب وشمال افريقيا والعراق واليمن ومصر وسوريا، جنباً إلى جنب موجات يهود من رومانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وغيرها من يهود أمريكا وبريطانيا وهولندا، الأمر الذي حقق في النهاية الغلبة للصهاينة على أهل فلسطين وذلك بتقويض المقاومة الفلسطينية وإلحاق الهزائم بالجيوش العربية التي كان لها أكثر من قيادة تتنازعها دوافع شتى. وكان معلوما أن لدول أوروبا وأمريكا مبررات وأطماعا في المنطقة تمتد حتى الهند جوهرة التاج البريطاني وما وراءها. كما كانت حكومات دول أوروبا وأمريكا تستشعر خطر سيطرة الصهاينة على مرافق الاقتصاد والتجارة وتأثير النفوذ والفكر الصهيوني المنتشر في مجتمعاتها. وقد حذرت النخب في تلك البلدان الحكومات المعنية من نفوذ متنام للصهاينة ونصحت حكوماتها حماية لمصالحها أن تقبل بوعد بلفور وتترجمه الى واقع جديد وتوجِد الوطن البديل للصهاينة بدءاً بتغليب الوجود والنفوذ الصهيوني على أصحاب الأرض من أهل فلسطين العرب وصولاً إلى إعلان قيام دولة إسرائيل كأداة قمع وهيمنة مطلقة في الشرق الأوسط.

إن قراءة متأنية لوقائع تلك المرحلة توضح أن بريطانيا أكملت إجراء إجلاء قواتها عن فلسطين بعد تأكدها من تنامي تعداد الوافدين اليهود إلى فلسطين من كل حدب وصوب، وبعد أن تم تسليحهم وتدريبهم وانخرط معظمهم في تنظيمات الجماعات الإرهابية المسلحة التي نظمها وأشرف على إعدادها عتاة الإرهاب الصهيوني قتلة برنادوت وأطفال ونساء دير ياسين وصبرا وشتيلا وأبرزهم بن جوريون وبيجن وشامير وأشكول وجولدا مائير وعلى طريقهم يمضي اليوم نتنياهو وشارون وبيريز وبن اليعازر.

وخلال عقود سبعة والأمة العربية وحكامها يتجرعون مرارة الفشل والهزائم، ومرجع ذلك بوضوح يتجلى في غياب وحدة الموقف والمقاصد.. فالموقف العربي سجل منذ 55 عاماً انكفاء وتراجعا باضطراد. ففي العام 1947، فقدنا يافا وحيفا وعكا، وطُردنا في وقت لاحق من القدس والضفة والقطاع وسيناء والجولان وشبعا، وانفرط عقد التضامن العربي بمعاهدة كامب ديفيد ومن بعدها أوسلو وملحقاتها.. وكان غزو العراق لدولة الكويت في العام 1990، قمة السقوط العربي.

ولا اقصد بهذه العُجالة سوى شحذ الهِمم وحشد القوى عوضاً عن البكاء والتباكي على ما فات، فالوقت لم يعد فيه متّسع للبكاء، فقد جفّت المُقل من الدموع بانقضاء عقود من البكاء والنحيب والولولة. وها هي المآسي والكوارث تتلاحق وتتعاظم أخطارها وعواقبها تحيط بأمة العرب والإسلام من الجهات الأربع.. وأصبح التضامن العربي وميثاق الدفاع المشترك نسياً منسياً، بعد أن عصفت بهما جريمة الغزو العراقي للكويت، تلك الجريمة التي فتحت أبواب الشرور على كل العرب والمسلمين، وجعلت منا صورة ناطقة بالضعف والتخلف والجهل والخيبة.

وأمام هذه الصورة المؤسفة والمخجلة معاً، أجد نفسي أشارك في الدعوة لإيقاظ الوعي والسعي لدى قادة الأمة من أجل إعادة النظر في واقعنا المؤسف والتعجيل في وضع صيغة مقنعة وخطة موحدة تحدد إجراءات عاجلة لوقف تنفيذ حرب غير مبررة على العراق. ويتبع ذلك رسم برنامج للنهوض بالأوطان من كبوة هجرة العقول وإلغاء حالة الانفصام في علاقة الحاكم والمحكوم، باعتباره طريقاً للنجاة ولإنقاذ ما يمكن للتصدي لمسلسل التآمر الإجرامي الذي تصرّ عليه وتمهّد له تحت شتى الذرائع الصقور في الولايات المتحدة وبريطانيا وبتحريض سافر من إسرائيل.

ولما كان الشيء بالشيء يُذكر، لا بدّ لنا من محاسبة النفس بالمجاهرة وإقرار خطايا ارتكبها بجهل وغباء طاغية في بغداد حين شنّ حرباً ضد إيران العام 1981 بداية، وأخرى ضد الكويت العام 1990 نهاية. فزرع بذور الخوف والشكوك في المنطقة ودفع بحكوماتها إلى السقوط في شراك المتربصين في واشنطن ولندن وتل أبيب. وكان رديف التهور بعد حروب حاكم بغداد ضد مواطنيه وجيرانه، هو تلك الفعلة الشنعاء في 11 سبتمبر 2001، التي ألبت الأعداء والاصدقاء على العرب والمسلمين، حين أقدم رهط طالبان و«القاعدة» من الغُلاة تحت يافطة الأسلمة على نسف برجي التجارة في نيويورك الذي أسفر عن وقوع ضحايا أبرياء ومسّ بسمعة وكبرياء القطب الأوحد وأيقظ التنين ليعصف بكل ما حوله.. وهي الجريمة المنكرة التي أساءت وأضرّت بجموع المسلمين في مهاجرهم وداخل أوطانهم.. جريمة لا يقرّها ديننا الإسلامي الحنيف الذي يدعو للحوار والسّلم ويحرّم القتل والتخريب والعنف ويرفض الظلم والعدوان. لقد أقدمت جماعة من الغلاة أوكلت لنفسها دون تفويض جموع المسلمين لها القيام بعمل بشع وهي التي كانت تعمل في إطار توجيهات صناع حروب وتجار سلاح وأجهزة أمن ومخابرات أمريكية وعربية وإسلامية، بعذر إجلاء جيش الاحتلال السوفياتي عن أفغانستان، تاركة فلسطين القريبة تحت رحمة الطغيان الإسرائيلي.. فالجهل بأصول الدين الإسلامي والاستجابة العمياء لمشاركة الأجهزة الأمريكية في حروبها ضد الغير بتوفير الأفراد والأموال قد أوصلنا إلى حافة الهاوية.

والأمة اليوم وهي تجد نفسها وسط موجات عاتية من الحقد والكراهية والاستفزاز المحيطة بكل ما هو عربي ومسلم بقيادة أمريكا وإسرائيل يبرز أمام العقلاء سؤال: ما هذا الذي نشهده ونعيشه، وما هو دور أهل الحل والعقد في السلطة وخارجها في إرساء أسس خيارات وبدائل لتفادي الكارثة العظمى والخسارة التي لن تعوّض لأجيال قادمة من جراء وقوعها لا سمح الله؟.. وفي ضوء واقعنا المؤسف والمحزن، يرى كثيرون مهتمّون بالشأن العام ضرورة العمل على ترتيب البيت العربي الإسلامي بتسوية أوضاعه السائدة.

إن فتنة واقتتالا يرسمها ويوشك على تنفيذها مثلث الإرهاب والشر بأضلعه الثلاثة «أمريكا وبريطانيا وإسرائيل»، يستهدف العراق أولاً بعد أن أحكَمَ قبضته على ثورة الشعب الفلسطيني ووضع سوريا ولبنان وإيران في كشف حساباته.

وحروب غير عادلة تتعرض لها شعوب إسلامية مقهورة في أفغانستان والشيشان وجنوب السودان وكشمير وجنوب الفلبين وجزر اندونيسيا.

وفي هذا الصدد، لا بد من إيجاد حلول وتسويات لهذه القضايا المتراكمة. وفي الوقت نفسه لسنا بحاجة لصنع معجزات لتفادي الضربات والاعتداءات، فكل ما نحتاجه هو إجماع الرأي الذي يمكن أن نقتنع به ونجد فيه مخرجاً جميلاً وربما تجسده دعوة مخلصة وعاجلة ضمن خطوات أخرى.

أولا: تُعلن دول جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي إنهاء ارتباطها بالمشروع الأمريكي المعروف بالحرب ضد الإرهاب في أفغانستان بعد أن تحقق للولايات المتحدة هدفها المعلن وهو إلغاء نظام الطالبان وإحلال ائتلاف وطني برئاسة كارازاي، وبعد أن أحكمت قبضتها على خاصرة آسيا الوسطى بما يكفي للإحاطة بالميزة الاستراتيجية وبحرية الاتصالات التي كانت تتمتع بهما كل من روسيا والصين بعد أن أصبحت إيران والباكستان والهند ومياه الخليج وشبه الجزيرة العربية محاطة وعلى مرمى حجر من الجيوش والقواعد الأجنبية المنتشرة على أراضيها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.

ثانيا: وضع سياسة اقتصادية ومالية جديدة ونشطة تتحكم بأسلوب التراضي والاقتناع من أجل عودة الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا إجمالاً، والاتجاه نحو تفعيل خطة بديلة داخل الأوطان على امتداد أرض العرب والمسلمين تسهّل عودتها إلى أوطانها وجيرانها في آسيا وأفريقيا.

ثالثا: إلغاء التعامل مع حكومة شارون وإغلاق كل تمثيل لإسرائيل في العواصم العربية كرد طبيعي على قرار حكومة إسرائيل التنصل من اتفاقيات مبرمة مع السلطة الفلسطينية.

رابعا: إيقاف سداد الأنصبة العربية والإسلامية في ميزانية الأمم المتحدة لعامين احتجاجاً على دورها المتواطئ مع إسرائيل ضد العرب والمسلمين.

خامسا: دعم المقاومة الفلسطينية وتعزيز حركة الانتفاضة وإقناع السلطة الفلسطينية بإعلان سلطة ائتلاف وطني فلسطيني يضم فتح والجبهة الشعبية وحماس والأكاديميين من أبناء فلسطين في الشتات دون استثناء.

سادسا: تحرير أسْر الشعب الفلسطيني من قيادة تاريخية تجاوزتها الأحداث واخترقتها إسرائيل وتراجع القبول بدورها عربياً ودولياً.

سابعا: إقناع الرئيس العراقي صدام حسين ورجاله من الحزب الحاكم بإعلان حكومة ائتلاف وطني تضم عناصر عراقية من خارج العراق وداخله كخطوة أولى عاجلة تمهد لانتخاب رئيس للجمهورية العراقية يعقب ذلك إعلان استقالة صدام حسين الطوعية بعد أن أمضى حيناً طويلاً من الدهر على رأس السلطة، على أن يقر ويضمن مجلس الأمن سلامته وعدم ملاحقته. وأن تتولى السلطة العراقية الجديدة صياغة التعامل مع شعب العراق والمجتمع الدولي وفق القواعد المعمول بها والمتعارف عليها فيما يتعلق بقضايا عالقة مثل التفتيش والمراقبة على أسلحة الدمار الشامل حماية لوحدة العراق وإنقاذاً للشعب العراقي بكل فئاته وطوائفه من حرب ظالمة مرسومة لقهره وإخضاعه والاستيلاء على ثروته النفطية تحت ذريعة تعويض المعتدين وسداد فواتير حرب عدوانية تصر على شنّها أمريكا القطب الأوحد وبريطانيا المقطوعة من شجرة. ولنا في حالتي اليابان وألمانيا وامتثالهما لشروط المنتصر في الحرب العالمية الثانية عبرة ودروس.

وأخيراً يبرز التحدي في الخيار الصعب أمام شعب العراق وقيادته للاختيار بين بقاء أو رحيل صدام وعدي وقصي ومن حولهم من الأتباع والمعاونين وعدم استمرار نظامهم الحاكم بعد سلسلة الأخطاء والخطايا ما جعل من العراق الشقيق وشعبه الباسل هدفاً ووقوداً لحروب وصراعات وتصفيات واستحقاقات خارجية وداخلية.

فهل يقبل الرئيس صدام حسين بالتنحي الاختياري حرصاً منه على شعب العراق ووحدة أراضيه ودرء الخطر المحدق بالعرب والمسلمين؟.. سؤال لا بد أن نجد له إجابة.

* وزير خارجية اليمن الأسبق

** «الفيد» تعني الغنيمة للمقاتل في القبيلة عند النصر