خراب الخراب

TT

وطن تشيده الجماجم والدم

تتحطم الدنيا ولا يتحطم

من سيرة القمع في الوطن الى روايات النفاق والاحتيال في المنافي يرسم سلام عبود في كتابه «ثقافة العنف في العراق» صورة رهيبة للضياع، فكل من هم هنا كانوا هناك، ومعظم من يشتمون من المنفى مدحوا، وسدحوا في الوطن، والشخص الذي مدحوه ومجدوه هو ذاته الذي يشتمونه اليوم، فبأي اقلام يكتبون، وبأي ضمائر الى اسرتهم يأوون.

وميزة المؤلف هي التوثيق، فهو يعرفهم واحدا واحدا ويعرف بالتواريخ الاماكن التي عملوا فيها مع مؤسسات النظام، وبالارقام احيانا الرواتب التي كانوا يقبضونها من جريدة القادسية والطليعة الادبية وبابل والجمهورية ومجلة الكتاب وحراس الوطن ومجلة اسفار، هذا غير المخصصات السرية لفئة مختارة تتخذ من القلم ستارا لمهنة أخرى تخجل من وصفها الاقلام.

وقبل ان تظن انه يلوم مادحي الوطن لأنه يكتب من المنفى الاسكندنافي يطمئنك منذ الصفحات الاولى ان رأيه لمثقفي المهجر العراقيين ليس أفضل من تقويمه الاخلاقي والمهني لصحافيي الوطن وكتابه، حيث يقول منذ المقدمة:

«ومن خلال تجربتي الشخصية ورغم معرفتي المحدودة بهيئات العمل الثقافي في الخارج وجدت ان درجة الانحطاط الروحي، ودرجة السطحية وانحلال القيم عند بعض المنفيين تفوق الى حد كبير ما هو موجود عند الجماعات الثقافية في الداخل الموالية للسلطة، من منا يجهل الاعمال اللصوصية التي يتخذها البعض باسم النشاطات الثقافية للجمعيات والاتحادات الوهمية والنوادي على طول رقعة المهجر الاوروبي؟ من لم يسمع بذلك..؟ ان صور الخراب متعددة ومتنوعة، وهي لا تخص الداخل، أو الخارجين تواً من الداخل، ان الخراب شامل وعام، وفي الخارج هناك كائنات متخصصة في الخراب تعيش حتى على خراب السلطة، انهم خراب الخراب».

ولأن ذلك الكتاب العميق الخطير يخص النصوص وكاتبيها، يحرص سلام عبود على التأكيد بأن بحثه ليس ادبيا ولكنه وجهة نظر أخلاقية تدرس السلوك البشري من خلال النصوص، ومن خلال مواقف الادباء، فهو والحالة هذه دراسة اجتماعية ذات منحى اخلاقي عن وطن تدهورت اخلاقيات المهاجرين عنه والمقيمين فيه والتعميم غير جائز، طالما ان المؤلف يسمي الاشخاص، ويشير الى اماكن وجود نصوصهم التي مدحوا فيها العنف والخراب ومجدوا المشرفين على التصفيات في مزارع القتل.

لقد خرج الذين صفقوا لثقافة الدم في الوطن وكتبوا الدواوين للحروب المجانية التي اهلكت من أهل العراق وجيرانه اكثر من ثلاثة ملايين انسان ليحصلوا في المهجر على جوائز عالمية لا تمنح كما قال الكاتب إلا للذين يعادون الحروب والارهاب فأثبتوا في الحالتين قدرتهم على تبديل جلودهم والنفاق داخليا وخارجيا بحيث خدعوا العالم الخارجي بذات الاسلوب الذي خدعوا فيه اهلهم في الوطن بالأوهام التي باعوها.

ان معركة ثقافة الداخل والخارج للمثقفين العراقيين ليست معركة ثقافة انما معركة ضمير، فقد صمت كثيرون عن خطورة الآيديولوجيات الشوفينية والطائفية وعن سياسات التطهير العرقي ودافع بعضهم بشراسة عن الاساليب الستالينية قبل الحربين وبعدهما.

الحرب اذاً ومن منظور مؤلف «ثقافة العنف في العراق» حرب ضمائر لا أكثر ولا أقل، حرب داخلية لا صلة لها بالشعر والقصة أو الفن أو العلم، وباختصار هي حرب أهلية في دهاليز نفوس خربة، وحين تخرب النفس لا يهم المكان فسواء كنت في الداخل أو الخارج ستواصل الدس، والكيد، والنفاق، لأن الرادع الذي يوقف الخراب عند المشاركين في صناعة خراب الخراب ـ وهو الضمير ـ يكون قد سافر في اجازة لا عودة منها.

الحرية عند سلام عبود هي الضمير، وحين يموت ذلك الضمير ينطفئ وهج الحرية، ويصبح المتبجحون باسمها في الداخل والخارج مجرد عبيد يسيئون استخدام عبوديتهم لصالح مستبد يعرفهم جيداً، ولصالح مضيف بدأ يتعرف مذهولا على بعض اساليبهم التمويهية المرقطة.