الاتفاق والاختلاف في العلاقة السعودية ـ الأميركية

TT

من حيث ظن أسامة بن لادن ان عملياته الارهابية المشهودة سوف تؤدي الى حدوث شرخ كبير في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية، فإنه من الواضح انه فشل في تحقيق هذا الأمل، وان كان عدد ضئيل من الذين يسمون انفسهم «المفكرين الاستراتيجيين» في الولايات المتحدة اعتبروا ان المملكة السعودية خصم استراتيجي لاميركا ودعوا الى التخلي عن العلاقة معها. هؤلاء «المفكرون الاستراتيجيون»، بثرثرتهم السخيفة في واشنطن، انما حاولوا تنفيذ ما رمى اليه بن لادن من حيث الرغبة في فك العلاقة السعودية ـ الاميركية.

وفي ذلك يقول المفكر الاستراتيجي الابرز زبيغنيو بريزنسكي، مستشار الامن القومي للرئيس الاسبق جيمي كارتر: «هناك جهات لها مصالح استراتيجية تروج للعداء بين اميركا والعرب، وما هو مقلق من هذه الناحية الاخبار المتداولة بأن بعض اعضاء «مجلس السياسة الدفاعية» في البنتاغون يدفعون الامور نحو المواجهة في العلاقات السعودية ـ الاميركية».

وكان بريزنسكي قد قال في مقال آخر نشرته جريدة «نيويورك تايمز» 2002/9/1: «إن ارييل شارون رئيس الحكومة الاسرائىلية يرحب كثيرا بتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية». كذلك اعلنت جيسيكا فوغايت، العضو المشارك في مكتب واشنطن لمجلس العلاقات الخارجية: «إن السياسة العليا المتعلقة بالشرق الاوسط لا يجوز ان تبدأ بالتخلي عن علاقتنا مع المملكة السعودية». واضافت تقول: «إن محاولات الضغط العلنية الفجة ضد السعودية لا تخدم المصالح الاميركية». والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تحتاج الولايات المتحدة الى المملكة السعودية، وهل تحتاج المملكة السعودية الى الولايات المتحدة؟

للاجابة عن هذا السؤال لا بد من التذكير بأن بعض اصدقاء ادارة الرئىس بوش حاولوا مرات عديدة منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ان يظهروا السعودية على انها دولة يمكن الاستغناء عنها، لكن العلاقة الخاصة والاستراتيجية بين البلدين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عادت فأكدت ذاتها في اللقاء بين الرئيس بوش وولي العهد السعودي، الامير عبد الله بن عبد العزيز، حيث جدد الرئيس الاميركي اعترافه بمركزية العلاقة الاميركية ـ السعودية، ذلك ان هذه العلاقة تقوم على مصالح مشتركة في اطار التقويم المستقل للأوضاع من كلا الجانبين، حيث يمكن لأي منهما التوصل الى استنتاجات مختلفة، وبالتالي الى تفاوت في بعض المواقف يصل احيانا الى امتناع احدهما عن دعم سياسة الآخر.

والقضية الفلسطينية هي ابرز مثال على ذلك، حيث يظهر تفاوت واضح بين الفريقين بشأن هذه القضية. ويعود جانب من الهجمات التي تتعرض لها السعودية، والعائلة المالكة، في الولايات المتحدة الى الدعم السعودي المتواصل للشعب الفلسطيني، لكن على الرغم من الاختلاف حول القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من احداث 11 أيلول/ سبتمبر، فإن الولايات المتحدة والمملكة السعودية كلتيهما حريصتان على جعل العلاقة التاريخية بينهما اكثر دواما ورسوخا.

فالسعودية تقع في قلب «قوس الازمات»، حسب وصف بريزنسكي للمنطقة الممتدة من افغانستان وباكستان، الى العراق وايران مرورا بالخليج ووصولا الى فلسطين بؤرة الصراع العربي ـ الاسرائىلي. وبحكم المؤهلات الجيوبوليتيكية، والجيوعسكرية، والجيوبترولية، التي تتمتع بها المملكة السعودية، بالاضافة الى مؤهلاتها الاسلامية، اصبحت المملكة الشريك الاستراتيجي الاهم للولايات المتحدة. وتواجه السياسة الخارجية الاميركية اليوم عدة قضايا جيوبوليتيكية وأمنية تستلزم التشاور والتعاون الوثيق مع المملكة السعودية، ابرزها القضايا الست التالية:

1 ـ افغانستان.

2 ـ النزاع الفلسطيني ـ الاسرائىلي.

3 ـ العراق وايران.

4 ـ الاستقرار في باكستان.

5 ـ قضية كشمير، وخطر الحرب النووية بين الهند وباكستان.

6 ـ واخيرا الحرب ضد الارهاب.

ولن تستطيع الولايات المتحدة ان تعالج هذه التحديات الاستراتيجية معالجة ناجحة، بحل تلك القضايا او تركيزها، بدون تعاون السعودية ونواياها الحسنة، كما اشار الى ذلك الجنرال انطوني زيني القائد السابق للقيادة المركزية، ومستشار وزير الخارجية الحالي كولن باول، حيث قال: «إن احتضان السعودية للأماكن الاسلامية المقدسة (مكة والمدينة) يجعلها اثقل وزنا واكثر نفوذا في العالمين العربي والاسلامي، حيث يعيش 1.3 مليار مسلم. ولهذا، يصعب حل القضايا المشار اليها بدون التشاور مع المملكة السعودية والحصول على دعمها».

ان هذه القضايا، وجميعها لها بعد اسلامي بوجه عام، وبعد عربي بوجه خاص (فلسطين والعراق). تتضمن بدون شك مصالح اميركية حيوية. ولذلك فإن المشاركة السعودية في حلها هي عنصر حاسم يعادل في اهميته الدور البريطاني ان لم يكن اهم منه في المنطقة، اذ انه من الصعب تلبية المتطلبات الدفاعية والامنية الاميركية بدون التعاون والتشاور مع المملكة السعودية، بالنظر الى ان المرافق العسكرية في المملكة، على سبيل المثال، هي الاكبر والاكثر تطورا في المنطقة.

يضاف الى تلك البنى التحتية العسكرية، ان السعودية تتمتع بموقع جغرافي متميز لا تتمتع به اي دولة أخرى في المنطقة باعتراف احد كبار العسكريين الاميركيين، الجنرال زيني، الذي قال انه مهما اقيم من قواعد وتسهيلات عسكرية في دول أخرى مثل تركيا، واسرائيل، ودول الخليج، فإن تلك الدول لا يمكن ان تحل محل المملكة السعودية. وفوق ذلك، فإن السعودية هي اهم منتج للنفط وقد لعبت دورا اساسيا في تهدئة اسعار النفط.

فلا احد يجهل الدور الفريد للمملكة السعودية في عالم النفط. فهي تتحمل كلفة كبيرة بتعطيلها طاقة انتاجية في حقولها تتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين برميل في اليوم كصمام امان لتعويض اي انقطاع في الامدادات النفطية. ولكونها قادرة على توسيع وتقليص انتاجها حسب ظروف السوق، فقد كان دورها حيويا من حيث استقرار اسعار النفط على مستويات معقولة. وفي الحقيقة، فإن الابتعاد الاميركي عن السعودية، تبعا لذلك، ليس في مصلحة الولايات المتحدة، خصوصا في هذا الوقت الذي تواجه فيه واشنطن مصاعب مع قوى رئىسية أخرى في الخليج مثل العراق وايران.

ومن المعروف ان سياسة الطاقة التي ينتهجها الرئيس بوش تقوم على تخفيف اعتماد اميركا على نفط الشرق الاوسط، لكن البدائل المتداولة مكلفة وغير مقنعة. فالنفط الروسي بعيد جدا، وتوسيع اعمال الحفر والانتاج في الولايات المتحدة يعني خرق الحماية البيئية لمناطق واسعة من البلاد، وهناك في واشنطن من يروج للتقارب مع حكومات غرب افريقيا، لكن تلك الحكومات الفوضوية لا تستطيع ان تكفل الاستقرار المطلوب، فضلا عن انها لا تملك مخزونا كبيرا من النفط يضاهي المخزون السعودي.

وفيما يراوح سعر النفط الآن بحدود 30 دولارا للبرميل، فإن استمراره على هذا المستوى عدة اشهر من شأنه ان يحدث اثرا كبيرا في الاقتصاد الاميركي. إذ ان ذلك سوف يحد من الانفاق الاستهلاكي من خلال رفع كلفة البنزين وفواتير وقود التدفئة، فكل ارتفاع متواصل في سعر النفط بمقدار دولار واحد للبرميل، يعادل انتقالا في مداخيل العائلات الاميركية يبلغ 5 مليارات دولار، وهذا يشكل ضريبة ضاغطة على ميزانيات العائلات الاميركية في وقت غير مناسب، حيث يشهد سوق العمل ركودا وهبوطا في أجور الايدي العاملة.

ومن شأن ارتفاع اسعار النفط ان يقلص هامش ارباح الشركات من خلال زيادة تكاليف المواد في وقت تسعى فيه تلك الشركات الى النهوض من الانهيار التاريخي في ارباحها، حيث أدى ذلك الى هبوط قيمة اسواق الاسهم بحوالي 7 تريليونات دولار!

وبما ان المملكة السعودية هي القوة البترولية العظمى الوحيدة، فهي البلد الوحيد القادر على ابقاء سعر النفط اقل من 30 دولارا في حال حدوث اي انقطاع في اسواق النفط. ولهذا يمكن القول ان الذين يحاولون اليوم زعزعة العلاقة الطويلة الأمد بين اميركا والسعودية، انما يزعزعون، في حال نجاحهم، الاستقرار الاقتصادي والمالي للولايات المتحدة.

ومن جهة ثانية، فإن السوق السعودي هو سوق لما تصدره الولايات المتحدة من سلع وخدمات، حيث يقدر ان مليونين من الرعايا الاميركيين يعتمدون في مداخيلهم، بطرق مباشرة او غير مباشرة، على السوق السعودي، كما ان الاستثمارات السعودية في اميركا لها مردود ايجابي على سوق الاسهم الاميركية، واسواق العقارات والمصارف.

وواضح من ذلك ان هذا التأثير الايجابي بوجهيه المذكورين، اي الصادرات الاميركية الى السعودية، والاستثمارات السعودية في اميركا، هو من العوامل الاساسية لدعم ميزان المدفوعات الاميركي وتعزيز قيمة الدولار، حيث ان الدولار القوي يشد بدوره رساميل أخرى الى السوق الاميركي.

وهناك عامل مهم آخر غير منظور يميز المملكة السعودية، من الناحية الاقتصادية، عن بقية حلفاء اميركا في المنطقة كلها من باكستان الى مصر، والاردن، واسرائيل، وتركيا، هو ان السعودية هي الدولة الوحيدة بين هؤلاء الحلفاء التي لا تتلقى اي مساعدات خارجية اميركية.

وعندما قامت الولايات المتحدة بدعوة المملكة السعودية الى حضور مؤتمر اعادة بناء افغانستان، الى جانب اليابان والاتحاد الاوروبي، كانت تعرف ان السعودية مؤهلة لهذا الجهد، بالنظر الى ان استقرار افغانستان وباكستان يحتاج الى دعم مالي واعادة اعمار، مما يجعل السعودية مجددا صديقا ثمينا للولايات المتحدة.

فالمركز الممتاز الذي تحتله السعودية في باكستان، يجعل منها عنصراً مهماً للولايات المتحدة لترسيخ استقرار باكستان من النواحي العسكرية، والسياسية، والمالية.

وأخيرا وليس آخرا، فإن ادارة بوش تشعر بأن تحقيق سلام دائم في المنطقة لا يمكن ان يتم بدون ديبلوماسية سعودية فعالة، وبدون التعاطي السياسي من قبل الرياض. ومما لا شك فيه ان كلا من واشنطن والرياض تسعى، بدرجة أو أخرى، وفوق كل شيء، الى تعزيز مصالحها الوطنية حتى وهي تعمل للصالح العام. وعلى الرغم من ان السعودية لا تتبع السياسة الخارجية الاميركية تبعية عمياء، فإن التحالف بين البلدين يبقى نافعا وثمينا للفريقين، لأن كليهما مستفيد من الاستقرار السياسي والامن العسكري للمنطقة، اضافة الى كونهما حليفين في المجالات الاقتصادية والبترولية.

ان للمملكة العربية السعودية مصلحة سياسية واقتصادية في الحفاظ على علاقة طيبة مع الولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة في العالم. فالسعودية تعرف ان التحالف مع اميركا يشكل ضمانا ضد التهديدات العسكرية، كما تعرف ان العلاقة القوية بين واشنطن والرياض هي وحدها القادرة على حفظ امن واستقرار منطقة الخليج وما وراءها.

كذلك تدرك السعودية ان الاقتصاد الاميركي، وهو اكبر اقتصاد في العالم، وهو سوق مهم لنفطها وسوف يزداد اهمية. وهي ايضا بحاجة الى المعارف والتكنولوجيات الاميركية، كما تدرك اهمية الدور الاميركي في ايجاد حل للمشكلة الفلسطينية واقامة دولة فلسطينية، لأن الولايات المتحدة قادرة على تحقيق ذلك، وخلاصة الامر ان البلدين يحتاج كل منهما الى الآخر، وبالتالي لا بد من تقوية وتعزيز الصداقة الاستراتيجية بينهما، ودحر جهود تلك الفئات داخل اميركا والعالم العربي الساعية الى دق اسفين بينهما! فمما لا شك فيه، ان العلاقات السعودية ـ الاميركية خضعت الى تدقيق وتمحيص بعد الهجمات الارهابية في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، كما تعرضت السعودية الى هجمات كاسحة في الصحافة الاميركية، لكن على الرغم من ذلك، فإن الرئيس بوش ارسل اشارات قوية الى الرياض مؤداها ان العلاقة بين البلدين تبقى مهمة، وذلك من خلال استقباله للسفير السعودي الامير بندر بن سلطان في مزرعته في كروفورد بولاية تكساس في الآونة الاخيرة، وهو تكريم يخص به عددا قليلا من رؤساء الدول فقط.

منذ احداث 11 أيلول/ سبتمبر، بات «قوس الازمات» في المنطقة اهم بقعة مركزية استراتيجية للسياسة الخارجية الاميركية. ولا توجد في المنطقة اي دولة أخرى يمكنها ان تلبي المزايا الاستراتيجية التي تلبيها السعودية. وباختصار، فإن المملكة السعودية هي المرتكز الاستراتيجي في قوس الازمات، ذلك انه من غير الممكن تحقيق الازدهار والاستقرار والسلام والامن في العالم كله بدون تعاون وتشاور وثيق بين اكبر دولة منتجة للنفط في العالم، واكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم.

* خبير في شؤون السياسة الاميركية ـ بالاتفاق مع «الديبلوماسي» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط».