زعماء ووزراء في غرف الانتظار

TT

ما أصعب هذا الانتظار!

مضى عقد من الزمان، بل اكثر، وهم يحلمون كل ليلة حلما لا يتغير إلا في القليل من التفاصيل. يرى الواحد منهم نفسه مدعوا، بين ليلة وضحاها، الى دخول القصر الجمهوري في بغداد على ظهر دبابة اميركية.

يرى، في ما يرى النائم، جماهير تهزج لمقدمه وتصفق له وتهتف باسمه «بالروح .. بالدم». هتاف ثابت واسماء متغيرة. يرى ضباطا وجنودا يؤدون له التحية العسكرية ويسمع اسمه يتكرر في نشرات الاخبار العالمية ويتفرج على صوره في الصفحات الاولى من الصحف وعلى شاشات الفضائيات.

يتقلب في فراشه مبتسما منتشيا مفعما بالرضا. ثم تطن قرب اذنه ذبابة ملعونة توقظه من الحلم الجميل الذي يتكرر كل ليلة، بل كل نهار. يفتح عينيه فاذا بالصورة الجميلة قبض ريح، واذا ببغداد ما زالت بعيدة المنال.

يهرع الحالم الموعود بأن يصبح حاكما، ويهرع معه رفاقه الحالمون، الى المسؤول الاميركي الذي يتعاملون معه. يلحون في طلب المساعدة المتأخرة او المؤجلة، ولا بأس ان كانت معنوية، والمستحسن ان تكون بالعملة الخضراء. يبيعون عذابات شعب مضغوط ما بين المطرقة والسندان، يجيرون لأنفسهم دموع الثكالى ودماء الشهداء، ويرسم كل منهم على محياه سيماء المناضل الوطني المهموم الذي اكلت المنافي سنوات عمره.

ما اقسى هذا الانتظار! لقد حفظوا كل المصطلحات المطلوبة: الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان وتحرير المرأة ونبذ الطائفية وحماية الاقليات والحفاظ على وحدة التراب .. الخ .. الخ.. التراب الذي يتمرن كل واحد منهم على الطريقة التي سيخر بها على الارض عند الوصول، ثم يأخذ حفنة منه يشمها ويقبلها امام مصوري «السي. إن. إن».

وفي ردهات الانتظار، كم مرة بدت لهم العودة وشيكة والحلم قيد التحقيق. ثم دارت رياح السياسة الدولية نحو وجهة اخرى وتأخرت اللحظة الموعودة حتى كادوا يفقدون الثقة بأنفسهم او حلفائهم.

وفي كل مرة، كان هناك من يستعد للمناسبة بخياطة بدلات جديدة يبز بها اناقة كرزاي الافغاني التي سحرت مصممي الازياء العالميين. يقف كرزاي العراقي امام المرآة ليختار ما بين العباءة العربية او السترة الافرنجية ذات الصفين من الازرار. ما بين اللحية الكاملة او النصف نصف. ما بين السدارة الفيصلية او العقال التراثي او قبعة كاوبوي تكساس. ألم يشبع العراقيون من عروض الازياء؟

يقال ان هناك عسكريين سابقين ارسلوا يطلبون احضار بزاتهم من بقج النفتالين، وعكفوا يلمعون ازرارها ونجومها بالبراصو، مع اضافة الرتب التي فاتتهم وهم خارج الجيش. ثم علقوا البدلات على باب الدار استعدادا لساعة الصفر التي ستنطلق من صفارة البيت الابيض.

متى يتحرك بوش؟ لماذا يتلاعب بأعصابهم ويبدو متخبطا في قراره؟ لماذا يكثر من الخطب والتهديدات ويؤجل مسيرة اليانكي الى عاصمة الرشيد؟ لماذا يبرمج «تحرير العراق» على نشرة الاحوال الجوية وعلى روزنامة الانتخابات واعياد الكريسماس؟

انهم مقتنعون بأن الطريق الى بغداد لا بد ان تمر بواشنطن، وان تدور حول البيت الابيض قبل ان تصل الى شارع الرشيد. هل يتذكرون درجة الحرارة في شارع الرشيد؟ ومزاج الناس في شارع الرشيد؟ ومسيرات العداء لأميركا التي احتضنها، لأكثر من نصف قرن، شارع الرشيد؟

ها هم يجلسون على اهبة الاستعداد في غرف الانتظار على أمل ان يستدعيهم ضباط «المارينز»، على وجه السرعة، للجلوس في كرسي الرئيس، او في مقعد نائب او وزير، بل ان هناك من يحلم بأن يجلس على العرش دفعة واحدة!

ما اضيق العيش رهن اشارة الابهام الاميركي.. ألا يستحق العراقيون مصيرا افضل من هذا؟!