تفتيش العراق قد يغير العالم

TT

حتى يوم الانتخابات الاخير في المانيا لا ندري بشكل مؤكد ما اذا كان الموقف المعلن للحكومة المعارض لشن الحرب على العراق رسميا وحقيقيا ام انه انتخابي يراعي فيه المستشار شرودر كره مواطنيه الالمان للحروب، وهو كره معلومة جذوره التاريخية. لكنه بالتأكيد موقف سياسي غير مألوف من قبل حكومة برلين التي تراعي عادة القرارات الاميركية الاستراتيجية وتسايرها.

الجدل الدائر المتمحور في ما اذا كان للولايات المتحدة الحق في شن الحرب على العراق ام لا، نقاش في غاية الاهمية للعالم، وان لم تتخاطب فيه القوى بشكل صريح، اثار كوامن عند دول العالم جميعا لاسباب لا علا قة لها بالعراق.

سأحاول هنا اختصار ما فهمته من الحوار المرمز، اي الذي يشير الى الامر، فالبعض يرى قيام الولايات المتحدة منفردة بمعاقبة دولة ما في العالم بلا تفويض دولي، وخارج مبدأ الدفاع عن النفس، هو خروج على القانون الدولي الذي هندسه العالم عقب مأساة نحو خمسين مليون قتيل ودمار مروع خلفته الحرب العالمية الثانية، وبسببه أسست الامم المتحدة. هذه الدول تقول انه قد يكون للولايات المتحدة الحق في شن الحرب، لكن ليس لها الحق الا ان تفعلها فقط من خلال ذلك المبنى العملاق في نيويورك، لا من خلال البيت الابيض وحده. وهم بموقفهم هذا لا يدافعون عن النظام العراقي، وليسوا راغبين في منع الاميركيين من شن الحرب انما يريدونها ان تصبح عملا قانونيا حماية للمنظمة العالمية. ولو سقط ايمان الجميع بالامم المتحدة لما ظل العالم بالصفة التي نعرفها عليه اليوم.

لا ننسى ان الدول التي أسست الامم المتحدة بُعيد الحرب العالمية في واقع الامر كانت المنتصرة، قررت مع هذا وضع نظام واختراع آلية يحتكم اليها الجميع بمن فيهم الاقوياء، والسبب ان الانتصار دائما مسألة مؤقتة، بدليل ان العالم انخرط في حرب كونية ثانية بعد عقدين تقريبا من الاولى، ونجحت الامم المتحدة بعد ذلك في منع الحروب الكبرى.

الان، وفي ظرف تاريخي نادر قررت الدولة العظمى ان تأخذ الامر بيدها وتعاقب دولة اخرى لانها خرجت على القانون، ومعظم الدول الكبرى رغم انها تشارك الاميركيين الرأي بأن العراق خالف الاتفاق الدولي الذي وقع عليه، قلقة من ان تتصرف دولة لوحدها بدوري القاضي والجلاد، وبالتالي شطب دور الامم المتحدة. وهنا خطأ ان يفهم الاخوة في العراق ان هذه الدول، فرنسا والمانيا والصين، تدافع عنه، لانها في الحقيقة ليست في صف بغداد، وهي تظن ابداً ان الحكومة العراقية ربما ارتكبت مخالفات تبيح الحرب عليها. النقاش هدفه اقناع الدولة العظمى بألا تتصرف لوحدها مهما كانت مقتنعة «بسلامة مبرراتها»، حفاظا على المجتمع الدولي بقوانينه وصيغته الاممية. نحن كعرب لا نريد غدا ان يعود الزمن الذي يدعي فيه سفير دولة كبرى ان باياً عربياً اهانه فيعاقبه باحتلال بلده، ولا العالم يريد الصين ان تحتل جارتها جزيرة تايوان، ولا ان تهشم روسيا جارتها الغنية اليابان، ولا ان تستغل اسبانيا الفرصة فتأكل الشاطئ المغربي الشمالي بدعوى حماية مدينتين «اسبانيتين»، ولا ان تعطش دول اوروبية صناعية فقيرة بتروليا، فتحل حاجتها ببارجة عسكرية، لا نريد ان نعود الى عالم الغاب كما كان في النصف الاول من القرن العشرين. الامتحان العراقي اليوم هو امتحان للوضع العالمي الذي ساد منذ عام 1945 بعد لقاء يالطا ومؤتمر سان فرانسيسكو عندما وقعت خمسون دولة ميثاق الامم المتحدة. فاذا كانت واشنطن عازمة على فرض التفتيش على العراق ولو بالقوة، عليها ان تمر عبر الامم المتحدة. وهذا قد يدفع دول مجلس الامن الى القبول بالحرب ليس عن قناعة بل انقاذاً للمنظمة الدولية، حتى لا يصبح القرار الاميركي قرارا دوليا.