حصار عرفات أمام الطريق الإسرائيلي المسدود

TT

ما يحدث في رام الله كان متوقعا، ولكن الغريب انه حدث. كان متوقعا منذ البداية ان ياسر عرفات لن يسلم المطلوبين، وانه لن يستسلم ويخرج من «المقاطعة» وهو يحمل علما ابيض، وانه سيتحمل الحصار ورفاقه وينام والمسدس تحت وسادته فيحافظ على صورة الرجل ـ الرمز ويستعيد مكانة القائد في شعبه الذي تحرك في مظاهرات كبيرة مؤيدة له.

كما كان محتملا ان تتحرك الدول العربية ودول العالم لوقف الحصار، علما بأن ارييل شارون يراهن على تراجع الاهتمام الدولي بالزعيم الفلسطيني مما يعجل في نهايته. ولكن الامر الحاسم في الموضوع تمثل بموقف واشنطن التي امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الامن الدولي الذي يطالب الحكومة الاسرائيلية بالانسحاب من الضفة الغربية وفك الحصار عن مقر الرئيس الفلسطيني في رام الله. وكانت ادارة جورج بوش هددت باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد مثل هذا القرار، إلا انها ما لبثت ان بدلت رأيها وسمحت بصدوره ارضاء للدول الاوروبية والعربية ولعدم الاضرار بتحضيراتها لضرب العراق.

وفي هذا السياق برزت نظرية اسرائيلية مقابل نظرية اميركية. تزعم النظرية الاسرائيلية بأن حصار رام الله يصرف الانظار عن موضوع العراق ويتيح لواشنطن ان تعمل من دون رقيب. اما النظرية الاميركية فتؤكد أن هذا الحصار يضرب الجهود الاميركية ضد العراق ويشوه صورة اسرائيل في العالم.

وتقبلت الحكومة الاسرائيلية القرار على أساس انه يدعم الخطط الاميركية للاطاحة بصدام حسين في العراق، بيد انها لم تتقبله على اساس انه يعرقل خططها للاطاحة بياسر عرفات في فلسطين. وألمس خلافا ينتاب العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية، لكنه لم يصل بعد الى حدود الازمة.

والواقع ان مجلس الامن الدولي تغاضى طويلا عن محاولات ارييل شارون المتكررة للاطاحة بالرئيس الفلسطيني، وكانت حكومته تستفيد من هذا التغاضي زائد الدعم الاميركي غير المشروط لاعادة احتلالها الضفة الغربية وشن المزيد من العمليات الارهابية ضد الشعب الفلسطيني.

وطالت فترة السماح الاميركي لأرييل شارون الى ان بلغت درجة لم يعد يتحملها اقرب حلفاء الولايات المتحدة كأوروبا والدول العربية الصديقة لها، مما حمل الرئيس الاميركي على الاعلان بأن أعمال اسرائيل «غير مفيدة ولا تساعد في شيء»، فتصببت حكومة ارييل شارون عرقا، وبدأت الجبهة الداخلية الاسرائيلية بالتصدع على المستويين العسكري والسياسي ازاء استمرار حصار رام الله.

والحقيقة ان الحكومة الاسرائيلية لا تكترث لقرار مجلس الامن طالما انه غير مرشح للتنفيذ ولا يتضمن صيغة تنفيذية، وهي لا تتردد ولا تتورع عن مواصلة تضييق الحصار على ياسر عرفات والتخطيط لاجتياح قطاع غزة، غير آبهة بهذا القرار كما لم تأبه بالقرارات الدولية التي سبقته منذ عام 1948. وهي لا تأبه إلا بالاعلان الاميركي الذي لم يأخذ بعد صفة الانذار.

عند هذه النقطة، دعونا نحاول ان نفهم المغزى من الموقف الاميركي بشأن الامتناع عن التصويت على قرار غير مرشح للتنفيذ.

هذا الموقف يرضي الفلسطينيين والعرب والاوروبيين ولو ان التصويت الاميركي عليه بالايجاب كان افضل بالنسبة لهم، وفي الوقت عينه لا يثير امتعاضا لدى ارييل شارون واللوبي الصهيوني الاميركي ولو ان استخدام واشنطن للفيتو كان افضل بالنسبة لهم.

لكن هذا الموقف لا يبدل شيئا في الخطوط العامة للسياسة الاميركية في المنطقة والقائمة على اساس «تبريد» الوضع الفلسطيني لا حله، و «تهدئة» الوضع على الجبهة اللبنانية، لا معالجته، بقصد توفير افضل المناخات الملائمة لتوجيه الضربة الاميركية ضد العراق.

هذا في الجانب الاميركي، اما في الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، فالحسابات مختلفة. ففيما يظهر ياسر عرفات ميلا الى ضرورة تثبيت وقف النار واحياء المفاوضات على المسار الفلسطيني، يظهر ارييل شارون ميلا الى مواصلة الاعمال الحربية ضد الفلسطينيين. وعلى هذا المستوى، يبدو الزعيم الفلسطيني اقرب الى الموقف الاميركي، بينما يبدو رئيس الحكومة الاسرائيلية ابعد عنه.

غير اني لا اتوقع ان تقابل واشنطن ايجابية ياسر عرفات بايجابية مماثلة، وقد سبق للرئيس الفلسطيني ان ابدى تجاوبا غير مرة مع واشنطن، غير ان هذه الاخيرة لم تتردد في البقاء على انحيازها لاسرائيل. واغرب ما في الامر ان كلا من ياسر عرفات وارييل شارون يراهنان على الموقف الاميركي، الاول يأمل ان يعتدل، فيما الثاني يأمل ألا يتبدل.

وليس في الأفق ما يوحي بأن الموقف الاميركي مرشح للتبديل على الرغم من الخلاف الذي برز مع اسرائيل، طالما ان جورج بوش وارييل شارون متفقان على ضرورة الاطاحة بصدام حسين وياسر عرفات.

ولدي انطباع ان ارييل شارون مصمم على ترحيل ياسر عرفات او اغتياله، ويأمل ان تتدهور صحة الرئيس الفلسطيني تحت وطأة الضغوط العسكرية والسياسية والنفسية التي يمارسها عليه.

في المقابل يسند ياسر عرفات ظهره الى حائط مقره وانتفاضة شعبه وانقسام الاسرائيليين، ويتوقع ان يحشر ارييل شارون فيضطر الى فك الحصار تحت وطأة الضغوط الخارجية والداخلية.

لكن ما يتجاهله ارييل شارون ان القضية الفلسطينية لا تحل بالاطاحة بياسر عرفات او برحيله او بموته، لأنها ليست بيد شخص، بل بيد شعب، والشعب الفلسطيني سوف يواصل النضال من اجل استعادة ارضه، والعمليات الاستشهادية سوف تستمر حتى زوال الاحتلال الاسرائيلي.

إن ما لا تريد واشنطن ان تراه هو هذه الحقيقة التي تتعمد اسرائيل اخفاءها، لكن ليس لواشنطن أية مصلحة في تجاهلها. وامتناعها عن التصويت في مجلس الامن الدولي لا يكفي لارضاء الشعب الفلسطيني وتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم العربي.

المطلوب من واشنطن اكثر بكثير.. مطلوب تسوية عادلة وشاملة للنزاع العربي ـ الاسرائيلي الذي طال اكثر بكثير من المقبول!