من حارب الاستعمار لا يستعير لغته وسلوكه

TT

«كما أن الحكومة بحاجة إلى دستور فوق القوانين العادية، فإن الناس يحتاجون إلى مصدر فوق البشر يدفعهم إلى الاعتراف بالحقوق الطبيعية للآخرين، حتى وإن كان ذلك ضد أهوائهم».

توماس جيفرسون الرئيس الأمريكي الثالث، ومؤسس الحزب الجمهوري.

هل العالم في حاجة الى المزيد من التوتر والاضطرابات وتردي العلاقات؟.. إن فيه من هذه العاهات ما يفوق طاقة احتمال ستة آلاف مليون إنسان ومثلهم معهم.. وعلى الرغم من وجود هذه الأزمات التي تمزق العلاقات بين البشر هناك من يسعى ـ بهمة ومثابرة ـ الى جلب المزيد منها، ولا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر الوبيلة. فمن الظواهر التي اقترنت بتداعيات هذه الأحداث: أنه كلما مالت العلاقات الدولية ميلا نسبيا الى الهدوء، والتعقل: برز في الميدان من يعيدها إلى التوتر والهيجان والغليان.. ولـ (كوندوليزا رايس) مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي: تصريحات. تضطر المرء اضطرارا إلى قراءتها في هذا السياق. فقد قالت: «إن الولايات المتحدة تعتبر نفسها قوة تحرير تكرس جهدها لإحلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي. وان النضال من أجل القيم الليبرالية الامريكية يجب ألا يتوقف عند حدود الاسلام، وان التفوق الامريكي في القطاع العسكري يفرض مسؤوليات لتأمين محيط أمن تزدهر فيه بعض القيم».

هذا كلام، ليس مناهضا للاسلام والمسلمين فحسب، بل هو كلام يتجافى عن المبادئ الأمريكية، وعن التراث الأمريكي، وعن روح النضال التي تحلى بها المؤسسون الأمريكيون الأوائل، وهي الروح التي كانت زادهم ورصيدهم الثر القوي في مقاومة الاستعمار والتحرر منه.

نعم. هو كلام أو موقف مقطوع الصلة بالتراث الأمريكي التحرري الذي ضرب للشعوب الأخرى مثلا في مكافحة الطغيان الامبراطوري الاستعماري.. والدليل على التناقض العميق والسافر بين ذلك التراث وبين كلام رايس هو: ان كلام الأخيرة: استعار لغة الاستعمار وسلوكه، واستدعى ـ من ثم ـ (قانون تداعي السوابق أو المآسي).. فذاكرة المسلمين لم تزل تذكر: كيف احتل المستعمرون أرضهم، وسياستهم، وتعليمهم، واقتصادهم، وقانونهم، وقضاءهم، وثقافتهم؟

ولم يكن المصطلح الذي ستر به الاستعمار جبروته واستعلاءه وأطماعه، لم يكن هذا المصطلح: خشناً، ولا جلفاً، ولا همجياً، بل هو مصطلح يقطر ـ في الظاهر ـ : رقة.. وحلاوة.. وغيرة بالغة على مصالح المسلمين ومستقبلهم. فتحت غطاء مصطلحات (الحرية)، و(الليبرالية)، و(التمدن)، و(التعمير) ـ (الاستعمار نفسه مفردة مشتقة من الجذر العربي: عمَرَ) ـ و(التحرير من التخلف).. تحت غطاء هذه المصطلحات، زحف الاستعمار على العالم الاسلامي، وفعل فيه ما فعل.. وهي المصطلحات ذاتها التي استعملتها كوندوليزا رايس.. ومصطلح (التحرير) بوجه خاص.

وإذ تنشط ذاكرة المسلمين في استحضار وقائع الاستعمار، تنشط ـ في الوقت نفسه ـ في استحضار (النتائج) التي خلفها الاستعمار، وهي نتائج مناقضة للمصطلحات التي سوغ بها الاستعمار خططه وأفعاله.. لقد ادعى الغرب أنه يحمل رسالة حضارية محددة هي (تحرير العالم الاسلامي مما هو فيه).. فماذا كانت نتيجة أو ثمرة هذه الدعوى؟ لن نستشهد ـ ها هنا ـ بكلام مسلمين: لا معتدلين، ولا متطرفين. انما نستشهد بما كتبه مؤرخ ومفكر استراتيجي امريكي ـ يعتد بآرائه في اوساط امريكية عليا ـ وهو (بول كندي). فقد سجل ـ في كتابه: الاستعداد للقرن الحادي والعشرين ـ هذه الحقيقة ـ التاريخية والمعاصرة ـ فقال: «ان الغرب الذي أبحر على جوانب السواحل العربية، وساعد الخطر المغولي، واخترق نقاطاً استراتيجية لسكك الحديد والقنوات والموانئ، وتحرك بثبات الى شمال افريقيا ووادي النيل والخليج والهلال الخصيب ثم الجزيرة العربية نفسها، والذي قسم الشرق الأوسط على اساس حدود غير طبيعية كجزء من صفقات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وزرع اسرائيل في وسط الشعوب العربية، وأثار انقلابات عسكرية ضد القادة الشعبيين، والاعلان المستمر أن هذه المنطقة مهمة للغرب بسبب نفطها، نقول: «إن الغرب الذي فعل كل ذلك لعب دورا كبيراً في جعل العالم الاسلامي في ما هو عليه اليوم، وبأكثر مما يريد المعلقون الأجانب: الاعتراف به. ومن الواضح أن المسلمين يعانون من عدة مشكلات أوقعوا هم أنفسهم فيها، لكن اذا كان معظم الغضب وموقف المواجهة للنظام الدولي الذي يقفه هذا العالم الاسلامي اليوم عائدا الى خوف قديم من ابتلاعه من قبل الغرب، فإن أي نوع من التغيير لن يكون متوقعا الا اذا زال هذا الخوف»، ومن المؤكد ان كلام رايس زاد الخوف ولم يزله، أي أنه عوق التغيير ولم يخدم حركته!!

واذا تطلب السياق: استدعاء شاهد من (القمة السياسية)، فهذا الشاهد هو الرئيس الأمريكي الاسبق (ريتشارد نكسون) ـ وهو رئيس جمهوري ـ.. وهذه الشهادة مسجلة في كتابه: الفرصة السانحة .. فيقول نكسون: «يتصور كثير من الأمريكيين: أن المسلمين هم شعوب غير متحضرة ودمويون وغير منطقيين. ان العالم الاسلامي هو حضارة مهمة تبحث عن شخصيتها التاريخية. لقد تمكن هذا العالم من تحرير نفسه من الاستعمار في الخمسينات والستينات.. وبينما نطور سياستنا لنتعامل مع العالم الاسلامي: علينا ان نبدأ بالاحترام والتقدير للشعوب التي تشعر بالأسى والألم لأن الغرب قد أساء فهمها، ووقف ضدها، واستغلها. ويجب علينا: ألا نفرض عليهم آراءنا ومفاهيمنا. ولو ان العالم الإسلامي ليس في نفس المستوى السياسي للعالم الغربي، الا ان حضارتنا ليست اعرق من حضارتهم.. لقد قاوم العالم الاسلامي الشيوعية بأقوى مما قاومها الغرب. ورفض المسلمين للماديات والتجاوزات الاخلاقية الشائعة في العالم الغربي: يحسب لهم، لا عليهم».

إذن، الاستعمار القديم: عوق نهضة المسلمين، كما يقول بول كندي. و«أساء فهم العالم الاسلامي، ووقف ضده، واستغله» كما يقول ريتشارد نكسون.. وقد حصل ذلك كله في غلاف لامع جميل من مفردات: الحرية والليبرالية، والتمدن، والتحرير من التخلف.

هذا الواقع التاريخي الكئيب المحزن، لماذا يستدعيه بعض المسؤولين الامريكيين، ويسقطه ـ طوعا!! ـ على علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم الاسلامي؟

قبل عشر سنوات كتبنا هذه الفقرة: «ليس بين الاسلام وأمريكا أو بين المسلمين والأمريكيين (حروب صليبية)، ولا (ثارات استعمارية)، ولا (أضغان عرقية). فالمجتمع الامريكي ـ في تركيبته الراهنة ـ: مجتمع جديد، تفصل بينه وبين الحروب الصليبية قرون سبعة تقريبا. ولم تستعمر امريكا بلدا او وطنا مسلما، ثم ان المجتمع الامريكي كيان متعدد الأعراق ليس في وسعه تطبيق نظرية: «التطهير العرقي».

فلماذا تناضل مستشارة الأمن القومي الامريكي من اجل زلزلة هذه القناعة، أو هز هذه الصورة؟.. وهل هي تحفز بموقفها هذا: مسلمي العالم ـ بعددهم الضخم، وانتشارهم في قارات الأرض كلها ـ هل تحفزهم الى الدخول في مرحلة جديدة من الكفاح الاستقلالي، بحسبانه كفاحا مستأنفا اقتضاه: عودة الحالة نفسها أو تكرارها؟

إن المشهور عن هذه المسؤولة الامريكية: أنها (ذكية) جدا.. فأين هذا الذكاء، على الأقل بالنسبة لما تريد وتهوى، وهو ضرب العراق «!!» فاستفزاز العالم الاسلامي بمقولة «ان امريكا قد هيأت نفسها لتحريره» لا يخدم: لا سيكلوجيا، ولا سياسيا، ولا أمنيا خطط الولايات المتحدة في استهداف العراق، بل يجعل المسلمين ينحازون اكثر الى العراق: استنادا الى قاعدة (ان المصائب يجمعن المصابينا).

ثم.. ثم .. ثم أي حرية هذه التي تريد المسؤولة الأمريكية ان تجلبها للعالم الاسلامي، وتحرره بمقتضاها؟

أهي حرية مساجين جوانتانامو؟.. وهذه ايضاً حرية عندنا منها الكثير في العالم الاسلامي.

أهي حرية المحاكم العسكرية؟.. هذه حرية عندنا منها الكثير في العالم الاسلامي. بل هناك مسلمون مصدرون لا مستوردون في هذا المجال.

أهي حرية التنصت والتجسس الواسع النطاق؟.. إن لدى العالم الاسلامي اكتفاء ذاتيا، بل فائضا في هذا الحقل، ولا يحتاج الى مساعدة امريكية، ولا قوة امريكية تفرض هذا النوع من الحرية.

أهي حرية (حجب المعلومات) الصحيحة بذريعة الحفاظ على (الأمن)؟.. لعل امريكا تعد مقلدة ـ لا أصيلة ـ في هذا الميدان.. مقلدة لأنظمة في العالم الاسلامي، سبقتها بعشرات السنين: العادية أو الضوئية.

أهي حرية الأخذ بالشبهة والظن، واسقاط كرامة الناس وتشويه سمعتهم قبل ان يثبت القضاء ادانتهم؟.. هذه حرية عندنا منها الكثير الكثير.. والمزيد المزيد في العالم الاسلامي. بل ربما اضطرت الولايات المتحدة الى الاستعانة بخبراء: عرب ومسلمين في هذا المضمار.

ولسنا نقصد (التعيير) بهذه المنظومة من الأسئلة.. أولا: لأن التعيير ممنوع في منهجنا.. ثانيا: ليس من الواقعية الموضوعية: تعيير الآخر بـ (شيء) أنت غارق فيه.. ثالثا: ان هذه الاسئلة لم تفتعل، وانما قيلت بالمناسبة، والقول يصح ـ توقيتا ـ اذا تنزل على مناسبته، ونأمل ألا يتكرر هذا النوع من المناسبات.

ام أن مسؤولة الأمن القومي الأمريكي تريد بالتحرير: تحرير المسلمين من (الاسلام)؟.. إن العقلاء الواقعيين يتعاملون مع الحقائق، لا مع الأوهام والاحلام.. ومن هذه الوقائع:

أ ـ ان الاسلام موجود قبل ان تخلق رايس وقبل ان توجد امريكا، وسيظل موجودا حيا أبدا، لأنه الدين الخاتم الذي حفظ الله به أصول دين نوح وابراهيم وموسى وعيسى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى». ب ـ لا يستطيع احد كائنا من كان أن يلغي الاسلام أو يطفئ نوره، فقد عجزت عن ذلك من قبل: قوى ودول وامبراطوريات: مشركو العرب.. والروم والفرس والصليبيون.. والتتر.. والاستعمار.. والشيوعية.. ج ـ ليس من مصلحة امريكا: القريبة والبعيدة: الدخول في معركة ايديولوجية وهمية أو في معركة كونية مع خمس سكان العالم.

ليس بالقوة وحدها تحيا الأمم. وانما تثوي المسؤولية المستنيرة في فتح باب الاجتهادات السياسية والانسانية والحضارية من اجل تعزيز العلاقات بين الامم. ومن اجل حماية هذه العلاقات من كل كلمة وفعل وسلوك: يضرب جذورها، أو يعطل نموها.