عرفات. صدام. حماس: دراسة في فن الهزيمة

TT

السياسة، من حيث الفكر والنظرية، كَمٌّ غامض ومجهول حار علماء الاجتماع في وضع تعريف محدد له. لكن السياسة من حيث الواقع، هي منذ أرسطو وأفلاطون فنّ الحكم وإدارة الناس، ولأنها فن أكثر مما هي علم وفكر، فليست للممارسة السياسية ضوابط معلنة. من هنا كان فن الممارسة السياسية أقرب الى الانتهازية التي تتحكم فيها عوامل متغيرة لا علاقة لها بثوابت العلم، كالظرف والعصر والمزاجية الشخصية والقدرة على الفهم والتحليل وأسلوب التنفيذ والتطبيق.

ولأن السياسة لها علاقة مباشرة بالسلطة، فقد انطوى فن الممارسة السياسية على تأثيرات كبيرة سلبا وايجابا على الدولة والمجتمع، وعلى العلاقات بين الدول والشعوب. ويزداد التأثير السلبي على جملة هذه العلاقات عندما تضيق الممارسة السياسية لتقتصر على شخص واحد، أو دائرة صغيرة من الساسة والزعماء والمسؤولين.

الأمثلة كثيرة على ذلك في الحياة السياسية العربية. لقد اعتمد عرفات وصدام الهام الزعامة في الممارسة. فكلاهما لجأ الى غريزته السياسية في اتخاذ القرار، الأمر الذي حال دون توسيع دائرة المشاورة، ودون نهج مبدأ الدراسة العميقة للظروف الإقليمية والمتغيرات الدولية.

وأدى ارتجال القرار السياسي والانفراد به الى ارتكاب اخطاء فادحة على المستويين الوطني والقومي، وانزال كوارث بالعراق والقضية الفلسطينية. لقد شن صدام حروبه وفي خزانته مائة مليار دولار. وخرج منها والعراق مدين بـ 1350 مليار دولار. وانتهت مغامراته الفروسية بأغنى بلد عربي، تربةً ومياهاً ومواردَ نفطية، الى العيش على البطاقة التموينية.

الهام الزعامة فرض عبادة الشخصية بكل مبالغاتها الدعائية في العراق وإضفاء هالات الوهية وقداسية على القيادة الرشيدة للزعيم المطلق. لم يكن متاحا لعرفات محاكاة صدام في فرض عبادة الشخصية، نظرا للتعددية السياسية الفلسطينية، لكنه تمكن بدهائه الشخصي وبساطة فن الممارسة عنده من الصعود ليصبح بكوفيته الفريدة رمزا لنضال شعبه، على الرغم من أنه لم تكن له دولة أو أرض، أو حتى عنوان، على حد تعبير شاعرنا نزار.

غير أن اعتماد الغريزة السياسية في ارتجال القرار، دون تفويض فلسطيني وقومي كاف وصريح، أدى الى نقل القضية الفلسطينية فجأة في عام 1988 من خندق المقاومة المسلحة الى فندق السياسة والمساومة والاعتراف باسرائيل.

الهام الزعامة المتمثل بارتجال القرار والانفراد به والشبق الغريزي لمعانقة السلطة، قاد الى التغرير الاسرائيلي والدولي بالزعيم الفلسطيني، وجره سرا الى كامب أوسلو، وعقد اتفاق مجتزأ ومرحلي تدريجي معه.

لعل الميزة الوحيدة لأوسلو هي اتاحة الفرصة لقيادة عرفات للاحتكاك المباشر بالعقل السياسي الاسرائيلي والتمرس بأسلوبه في التفكير والتفاوض. في المقابل كانت الخسائر لا تقدر. فقد أضعفت اوسلو الموقف التفاوضي العربي، فتأجلت الجولان، فيما هُرع الاردن الى عقد اتفاق مصالحة هي ايضا منفردة ومجتزأة، خوفا على كيانه السيادي من أن يتحول الى كيان فلسطيني في التسوية النهائية.

كان لا بد للمصالحة غير المتكافئة من أن تنتهي الى خلاف حول التسوية النهائية. وفي المواجهة المسلحة حوصرت قيادة عرفات في المدن التي تسلمتها اداريا، فيما تمكنت القوات الاسرائيلية المسيطرة بموجب اوسلو على الريف والمواصلات، من تمزيق سلطة الحكم الذاتي وفرض تضييق خانق على ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة وغزة.

غير ان البقاء الطويل على سطح السياسة والسلطة، عند صدام وعرفات خصوصا والنظام العربي غالبا، ادى الى التورط في لعبة «المؤامرة» التي كانت سائدة عالميا خلال الحرب الايديولوجية الباردة، ثم تجددت في عصر الفوضى الدولية الراهنة. والمؤامرة السياسية، في معناها العامي المبسط، هي التناقض بين الخطاب السياسي المعلن والممارسة السياسية في الواقع وعلى الأرض.

ولعل من الظلم لعرفات قرنه بصدام. فالمؤامرة عند الأول بقيت في حدودها السياسية، ولم تتجاوزها الى «المؤامرة المسلحة» الا في حالات الحرب والدفاع عن النفس. غير ان المؤامرة عند صدام لم تبق مقتصرة على الغدر بكل اتفاقاته وتعهداته المكتوبة والشفهية على المستويات الوطنية والقومية والدولية، وإنما تجاوزتها الى ممارسة دموية في التعامل مع الرفاق والاعداء، والى سادية وحشية في الاستئصال والتصفية.

المؤامرة في الممارسة جردت النظام والشخص من الثقة والمصداقية في التعامل مع الآخرين دولاً وافراداً. غير ان عرفات بالذات مدين في البقاء الطويل طافيا على سطح السياسة الى ديبلوماسيته العلنية اولا، ثم الى ما اسميه بـ«التقية السياسية» ثانيا. عرفات هو الديبلوماسي العربي الأول. فقد تمكن من اقامة علاقات صداقة شخصية مع زعماء العالم معتمدا على عدالة قضيته الوطنية، فيما بقي صدام مكروها ومعزولا.

«التقية» في بعض المذاهب الدينية تعني اعتماد الباطنية في اخفاء المشاعر والمواقف الحقيقية، اتقاء وخوفا من التصريح والمجاهرة بها علنا. تقية عرفات الباطنية مكنته من تغطية مواقفه الحقيقية، بل الاعتذار عنها عند انكشافها، باللجوء الى ممارسة ديبلوماسية التبويس والعناق واجتراح المصالحات الشخصية مع الساسة والزعماء والدول بالتظاهر بالضعف وقلة الحيلة في اللقاءات المغلقة.

التقية العرفاتية حاولت التغطية على الفوضى الفلسطينية المسلحة في أردن الستينات. لكن العجز عن الاستمرار فيها أمام العرب والأردنيين مكَّنَ الحسين وجيشه من تصفيتها وتسفير عرفات والمنظمات المسلحة الى لبنان عبر «الترانزيت» غير المتوقف في المحطة السورية.

في محاولة حماية الوجود الفلسطيني المسلح في الجنوب اللبناني واحتكاكه المباشر بالعدو، لجأ فن التقية السياسية الى التورط في اللعبة الطائفية اللبنانية. ونجحت ديبلوماسية عرفات والمنظمات في التغطية على فوضى السلاح الفلسطيني، بالدخول في حلف مع الطوائف الاسلامية والاحزاب الوطنية. وتمكن الحلف من تهميش سلطة النظام اللبناني ثم تفكيكه. لكن «التقية» ما لبثت ان سقطت في المواجهة المسلحة مع اسرائيل شارون الغازية للبنان، ثم ما لبثت ان نُفَيتْ نهائيا الى تونس بعد تجربة التعايش العرفاتي المستحيل مع سورية الأسد في البقاع والمخيمات.

ثم استخدم عرفات مضطرا «مؤامرة» التقية الباطنية للمحافظة على شعبيته وسلطته في الضفة وغزة، فتورط هو واجهزته في تمويل ودعم المقاومة المسلحة. عندما حصل الاسرائيليون على مستمسكات تدينه، كان عليه المجاهرة والاعتراف، لأن حق الدفاع عن النفس في أرض محتلة أمر تجيزه المشروعية الدولية، حتى ولو ادى الاعتراف الى اخراجه من الضفة وغزة، بدلا من ذلك لجأ الى النفي الذي لم ينفع في مواجهة الادلة التي حصل عليها العدو وَسَوَّقها عالميا.

عرفات اليوم ضحية المشروع الاصولي الفلسطيني. امعان «حماس» في تجاهل اللعبة السياسية على المسرح الاسرائيلي، اوصل اقصى اليمين الاسرائيلي الاستئصالي الى الحكم. ثم جهلها المتعمد في تقدير الظروف الدولية والاميركية بعد 11 سبتمبر، جعل العالم يضفي صفة الارهاب على عملياتها الانتحارية. نعم، الاستشهاد الانتحاري بدد كثيرا من غلواء الغطرسة في المجتمع الاسرائيلي، لكنه مكن حثالة القتلة الاسرائيليين في السلطة والجيش من مواصلة الاستيطان، وتدمير البنى الأساسية الفلسطينية، وتحويل المدن والمخيمات الى خرائب تحاكي خرائب شيشنيا وافغانستان، بل وتصفية الأُطُر (الكوادر) القيادية لحماس في الضفة. كل ذلك جعل مشروع دولة عرفات الفلسطينية صعبا، ان لم يكن مستحيلا في الظروف السائدة.

التدمير الشاروني المتواصل لمشروع الدولة الفلسطينية يلتقي على غير موعد واتفاق مع الرفض الاصولي لهذه الدولة، والى الاستمرار في رهان «حماس» على وهم انتحاري يستحيل تحقيقه عمليا الآن: دولة دينية واحدة من النهر الى البحر.

إلغاء السياسة من الممارسة الفلسطينية الأصولية، وضع عرفات رهينة للمشروعين الصهيوني والاصولي. ويبدو واضحا ان الاصوليين الحماسيين راضون بعد كل عملية انتحارية على انتقام شارون من عرفات وسلطته، واذلاله في هذا الحصار الوحشي المتجاهل لقدره كزعيم ورمز لشعبه وقضيته.

وهكذا، فالهام الزعامة والتورط في لعبة «المؤامرة» السياسية والدموية عند صدام، ثم التقية الباطنية عند عرفات في نفيها المستمر للدلائل والمستمسكات، واخيرا الغاء السياسة من المشروع الأصولي الانتحاري، كل ذلك عجل بتقديم الممارسة السياسية «للنظام» السياسي و «للمنظمة» الأصولية، كَفَنٍّ خالص في الحاق الهزيمة المحتمة بالنفس والذات والقضية. والهزيمة لم تعد تهدد بالتصفية السياسية للنظام والمنظمة معا، وانما تتيح الفرصة «للمؤامرة» الأميركية ـ الاسرائيلية لاغتيال الرموز وتصفية القيادات جسديا.