هكذا مثقف.. يستحق الشفقة

TT

لماذا يظن المثقف، في أحيان كثيرة، أن الحصول على تأشيرة دخول إلى عالم الوجاهة يستلزم عبوساً وتقطيب جبين، وإظهار قرف من العالم، واحتقاراً للغالبية العظمى من أمته. ولا يتعظ المسكين من الدلائل التي تشير إلى ان هكذا مثقف قد تخطاه الزمن، بعد ان ولى عصر المنظّرين الذين يتمترسون خلف عزلتهم، ويتفلسفون من عليائهم، وينبذون هذا ويستقلّون شأن ذاك، ويعتبرون ذواتهم معجزة مجتمعهم الذي أنجبهم وعجز عن الإتيان بمثلهم.

يروى عن فيلسوف أنه كان ينظر باستمرار إلى الأعلى، حتى تعثر يوماً بحصاة فسقط أرضاً، وأدرك من حينها ان من لا ينظر إلى حيث تتحرك خطاه يحصد العطب وتغدر به قدماه.

المثقف المتجهم غير مغرٍ، والثقافة بحد ذاتها هي فعل غواية ومغامرة. ولنا من هذا الصنف العذب مثقف مذهل، قلّ أن أنجبت أرحام العروبة شخصاً شبيهاً به. فقد عرف الجاحظ كيف يدخل النكتة، حتى الإباحية منها، إلى بديع كلامه، ويلقي بالفكاهات والطرف، ويبدع في نسجها حول مثالبه ومعايب غيره، وهو مما لم ينتقص من رفعة شأنه.بل على العكس، لقد نجح الرجل بفضل موسوعيته وبراعة عبارته، في أن يصبح ابن عصره بامتياز، وابناً باراً لكل العصور التي تلته، بما فيها عصر الإنترنت الذي كرّس «ثقافة الجماهير»، وكان أديبنا من طليعة روادها.فما بال بعض مثقفينا، في الوقت الذي باتت فيه كل أدوات الثقافة تتوسل إرضاء ذائقة العامة بابتكارات لا عد لها ولا حصر، يتبجحون بأن الناس يقصرون عن فهمهم. فهل هذه معضلة المثقف أم مشكلة الإنسان العادي، الذي وإن كان مجرداً ـ على سبيل الافتراض ـ من كل ميزة، لا بد أن نعترف له بدهاء الفطرة وذكاء العفوية.ولكن كيف تقنع جهابذتنا بأن الثقافة يمكن أن تقدم بكأس من ذهب كما بكأس من البلاستيك ولا كبير فرق.والأهم هو أن تقدم الثقافة، وأن لا يخاف المثقف على ملامس أنامله من حقارة البلاستيك، ما دمنا في زمن اللدائن.

والمفارقة أن المثقف يشكو انحسار دوره، في حين أن المعطيات كلها تشي بأنه بات أوفر حظاً من ذي قبل.فتقنيات التواصل غدت مفتوحة أمامه على مصراعيها ليبلّغ فكرته بالصوت والصورة، إن هو أحب.إلا أن ثمة مثقفين لا يستظرفون الكومبيوتر ويتهيبون أن تلمس أصابعهم بشرة الحاسوب، ويعتبرون، بمنتهى الجدية، أن هذه الثقافة التي تأتينا عبر الفضاء لا تستقر في العقول ولا تثبت أمام الأيام.والبعض يعترف بأنه لا يحترم التلفزيون، أو يفخر بأنه لا يقرأ سخف الصحف، وحدث ولا حرج عن الذين يترفعون حتى عن تأمل كل ما هو شعبي من الظواهر، غنائية كانت أم رياضية أم محض عادات يومية.

أما وأن المثقف يضيق على نفسه الحصار، ويقصر جغرافية اهتماماته على قراءة مؤلفات أصدقائه وحلقات شكواهم والنقيق، ومن ثم يخرج على الناس بإبداعات متشاوفة، لا تعترف بهم إلا في حدود وظيفتهم كقراء مفترضين، لا مهمة لهم سوى احتمال سوداوياته وبؤس حاله، فإن الوضع بات أصعب من أن يطاق.

المثقف الحق هو ابن الرصيف، ابن الشارع، ابن الحياة، خاصة اليوم، وقد سقطت الحدود بين المعارف، فبات الشاعر لا يستطيع إلا أن يكون، بشكل ما، كيميائياً وفيزيائياً وانثروبولوجياً وسوسيولوجياً يعرف خفايا «الماس ميديا»، ويدرك ما يدور في أزقة مدينته، كما يفهم التحولات التي تحدث في العالم وتجري مياهها من تحت أرجله.

فالمثقف لم يمت ـ كما يشاع ـ ولن يموت، لكن مفهوم الثقافة يتحول ويكتسب أفقاً وألقاً جديدين. والمثقف قد يكون سياسياً ورئيس دولة أو قد يكون رجل دين متنوراً أو حرفياً متواضعاً، كما الروائي الكبير جمال الغيطاني الذي بدأ حياته حائك سجاد.ولم نعد نعرف مع الغيطاني الذي ينسج رواياته ببراعة، إذا كانت السجادة هي التي أثّرت في الثقافة أم الثقافة هي التي منحت السجادة بعداً لم يكن لها. وكل ما نعرفه هو أن مثقفاً يحيك سجادة ليس كأمي أمام نول.وكتّاب العرب الكبار كان بينهم حرفيون مثل «الزجّاج» و«الثعالبي»، وصديقنا الجاحظ الذي كان بائع سمك وتحول إلى صائد للمتعة والكلام الجميل.

كلود ليفي ستراوس الأنثروبولوجي العملاق، يعتبر نفسه «بائع خرده»، وأبوللينير، الشاعر المقتدر يقول بأنه «إنسان سانتكس» أي مبدع تركيبي، بمعنى أن كل فحولته الشعرية تكمن في كونه يمهر أمام امتحان تركيب الأشياء بعضها مع بعض.وقد أصاب أبوللينير فليس الإنسي مهما عظم شأنه بأكثر من منسق حاذق، يركّب المذاقات والألوان والأحجام والنغمات. أو ليست فنون الطبخ والموسيقى والكتابة واللباس هي مغامرات تركيب لا متناهية. والخطورة، أبداً هي في أن لا نحسن تركيب العناصر الحية بانسجام يحميها من الانفجار، ونكون قد حضّرنا، من دون سابق إصرار وترصد، لعبوة ثقافية ناسفة.

لا يكفي المثقف كي يكون مثقفاً أن يقول: «الغناء هابط»، بل المرجلة في أن يرينا ويفهمنا اسباب هذا الهبوط، ويطلع علينا بنتائج غير هابطة. خذ الرقص مثلاً، بإمكانك أن تنبذه أو تعترض عليه.إنما تبقى الحقيقة التي لا سبيل إلى نكرانها، هي أن الإنسان حيوان راقص.وكل طفولة تبدأ راقصة قبل أن تقمعها الرزانة، لذلك قيل ان الفرق بين المشي والرقص هو كالفرق بين النثر والشعر، أي ان الرقص هو شعر الحركة.

من طبيعة الإنسان أن يغني وان يخرج أصواتاً لا معنى لها، فحداء الإبل معروف ومثله دندنات القطاف.المرء يغني ليحتال على مشاكل الدنيا ويغالب التعب. والغناء المبهم يشبه الرقص الذي لا قيمة جمالية له، لا بد من البحث عن قيمته الوظيفية. وأغلب الأمور تقاس بوظائفها لا بجمالياتها، لأن كل ما له قيمة خيرة جميل بطبعه.

وعلى المثقف حتماً أن يكون جميلا كي يرى الوجود جميلا وأن يكون مثقفاً بعمق كي يرى الوجود مثقفاً. فالثقافة فطرة، لكن الإنسان لحسه الطبقي، ميز بين ثقافة الخاصة وثقافة العامة، وما نحتاجه بإلحاح، اليوم، هو عملية دمج بين الثقافتين لتوليد ثقافة العصر ومثقف العصر.

[email protected]