حوار مع رجل غير حي

TT

لا ادري كم كان عدد اعضاء الحزب الشيوعي في بريطانيا. ألف؟ عشرة آلاف؟ مائة ألف؟ سبعة؟ لكنني اذكر صحيفة الحزب قبل ان تغلق «مورننغ ستار». او نجمة الصبح. وهي احب النجوم الى ذاكرتي واكثرها وضوحا ورفيقة القمر الدائمة في صيف القرى. على ان «مورننغ ستار» كانت جريدة كئيبة من اربع صفحات، لها ورق شيوعي اغبر. وتصدر دائما بعناوين غاضبة لا علاقة لها بحياة الناس وواقعهم، بقدر ما تعكس شكوى المحرر من القرحة او المغص المزمن.

احب التحدث الى السائقين في لندن. فالسائق فيها غالبا رجل مؤدب يحكي من خلف الزجاج. ولا مطالب لديه كالسائق اللبناني الذي يريد ان يعلم ابنه في الجامعة وان يطبب ام زوجته قبل ان يوصلك الى وجهتك. لكن هذا السائق اللندني يتحدث اليَّ من القرن الماضي في موسكو، لا في لندن. وهو لا يكف عن الكلام عن «الجماهير» و«صراع الطبقات» وعدالة ستالين، او الراهب «كوبا»، الذي بدأ حياته اسكافيا قبل الدخول الى الدير ثم الخروج منه ليدخل التاريخ كصاحب اعلى رقم في القتل والاسر والتجويع في تاريخ «الانسانية» المدوَّن او المعروف.

وكان السائق يتحدث ايضا عن «العمال» و«الريف» وشوارع لندن التي تمتلئ بالفقراء، او حسب تعبيره، «تكتظ بهم الارصفة». وقلت له ان نسبة البطالة في بريطانيا هي الأدنى منذ ثلاثة عقود وان «العامل» البريطاني يتقاضى في العام ما يتقاضاه العامل في كوبا او كوريا الشمالية خلال عقد في الأولى واربعة عقود في الثانية. اما بقية الدول الشيوعية فقد زالت من الوجود السياسي، هي وسجونها ورموزها. وان رجال «الستاسي» في المانيا الشرقية يعيشون الآن في مستوى بقية الأوروبيين، من دون الحاجة الى وضع التقارير عن المخادع الزوجية او تلقيها من الأبناء الذين يرغمون على الدس على ابائهم. وقلت له انه ليس هناك سجين فكر واحد في كل اوروبا منذ الحرب. والسياسي الوحيد الذي يقضي عقوبة في السجن هو اللورد جفري ارتشر، لأنه كذب في قضية امرأة عائبة تبيع الهوى أمام محطة فيكتوريا.

وقلت للسائق الكريم ان بريطانيا ترفض تطبيق حكم الاعدام في القتلة والسفاكين والشذاذ الذين يعتدون على جثث الاطفال. في حين قامت فلسفة الحزب الشيوعي السوفياتي على ان افضل الوسائل لبناء النعيم الشيوعي هي دك الرعب في النفوس. وقد قال لينين مرة في العام 1922 انه «من الخطأ الاعتقاد اننا تخلينا عن الارهاب، لأننا سوف نعود الى الارهاب والى الارهاب السياسي». وعندما الغى المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي عقوبة الاعدام، صرخ لينين: «هراء. هذا هراء. كيف يمكن ان نصنع ثورة من دون اعدامات؟». وبين 1917 و1924 اعدمت الشرطة السرية من الناس اكثر مما سقط في الحرب الأهلية. وكان تروتسكي يقول انه يجب «وضع حد نهائي لاولئك الذين يتحدثون عن قيمة الحياة البشرية».

وقعت هذه الرحلة الى لندن على ثلاثة كتب عن تلك الملحمة البشرية المعروفة باسم روسيا. الأول، عن «راسبوتين»، الكاهن الذي كان احدى الذرائع ضد عائلة القيصر بسبب ما نشر من فسق. والثاني بعنوان «كُوبا المرعب» لمارتن ايميس نجل الكاتب والشيوعي الراحل كنغسلي ايميس. والثالث عن حملة نابوليون على روسيا. وإذ كان سائق التاكسي يتحدث عن «الجماهير» وستالين، كانت ترن في الخاطر كلمات روبرت كونكويست صاحب «حصاد الحزن»: «لقد اكلوا (في المجاعة) روث الخيول لأنه يحتوي على حبوب كاملة من القمح». وفي رواية فاسيلي كروسمان الوثائقية «وكانت وجوه الاطفال هرمة، معذبة، كأنما كان عمرها سبعين عاما. ومع حلول الربيع لم تعد لهم وجوه وانما رؤوس مثل رؤوس الطيور لها مناقير. او مثل الضفادع: شفاه نحيلة عريضة وبعضهم كان يشبه السمكة الفاغرة الفاه».