قمة الاحتفالات بالانتفاضة الاعتراف بالأخطاء

TT

بدأت الاحتفالات بدخول انتفاضة «الأقصى» عامها الثالث بتظاهرات عارمة في الاراضي الفلسطينية المحتلة وبعض العواصم والمدن العربية والاوروبية وسط تصميم اكيد بمواصلتها حتى النصر. وهذا هو دأبنا في العالم العربي دائما، بينما الهدف من الاحتفاء في مثل هذه المناسبات هو المراجعة والتأمل للمضي قدما في ما ثبت نجاعته اثناء المسيرة، والتراجع عن ما ثبت فشله وتعديل وتطوير ما يستوجب التعديل والتطوير. لكننا للاسف في احسن الاحوال ننقسم الى فريقين، فريق لا يرى الا الانجازات، وآخر لا يحصي الا الاخفاقات وبدلا من ان يتحول جلال المناسبة الى وحدة في الرؤى وانطلاقة اكثر تقدما نكرس الشرخ ونزيد الفجوة اتساعا وتزداد الجماهير حيرة وارتباكا. لكنها في الغالب الاعم تنساق بعاطفتها وراء قوالب من يصورون ان النصر آت وان المسار لا محيد عنه ولا تبديل فيه. وان الداعين للمراجعة هم دعاة التراجع والهزيمة، الذين فترت همتهم وضعف صمودهم، ولذلك فإنهم لا يرون في الانتفاضة الا ما دفع من ثمن لقاء استمرارها ويحسبونه اكثر من عائدها، بل ان ضرره سيلحق المزيد من الانتكاسات بالقضية!

وفي مثل هذه الحالة التي تتكرر في ذكرى الانتفاضة تضيع المعاني المرتجاة والدروس التي يجب ان تستخلص من الانجازات والاخفاقات، وما لم نبتعد عن هذه الرؤية الاحادية ونتواصى على جمع الرصيدين معا، رصيد الانتصارات ورصيد الاخفاقات، فإننا لن نحقق وحدة الرؤى ووحدة الصف وستظل القضية برمتها عرضة للمزايدات والاخفاقات، وستكون انقساماتنا على الدوام مدخلا لكل من يريد ان ينال من عدالة القضية وتعطيل مسيرتها وتشويه مسارها ولن تتأتى لنا الفرصة لنتخلص من سلبياتنا.

ان نظرة عجلى لما تعج به الساحة هذه الايام تشير الى ان كل الاطراف منغمسة في التغني بصواب رؤيتها وتدبيج الخطب النارية وما الى ذلك، بينما كان المطلوب ان يكرس كل فصيل جزءا كبيرا من الوقت لمراجعة ما جرى طوال العامين من انجازات واخفاقات وان تجتمع كل هذه الفصائل معاً لتدارس كل ما توصل اليه فصيل منها واستخلاص ما يجمع والنأي عن ما يفرق وان يتوحد خطابها وسط الجماهير حتى لا تكون هناك ضبابية في الرؤية تجعلها تتخبط ولا تستقر على رأي واحد، خاصة وسط اسئلة كثيرة دائرة وحائرة من أهمها: هل تتواصل الانتفاضة بهذه الكيفية السائدة الآن أم ينبغي ان تعدل الكيفية وتتوحد الفصائل حول نمط معين؟ هل عالم ما بعد 11 سبتمبر يستحق ان يحسب له حساب وكيف؟ الوحدة الوطنية بين الفصائل ضرورة ولكن كيف يمكن التواصي على برنامج الحد الأدنى؟ العلاقات العربية الفلسطينية الى اين؟ وما هو المطلوب؟ العلاقات الدولية هل تؤخذ في الحسبان؟ وما هي متطلبات ذلك؟ العمليات التي يسميها البعض استشهادية والبعض يسميها انتحارية الا تحتاج الى وقفة تأمل؟ حكومة السلطة الفلسطينية التي توشك على الانهيار كيف يمكن اصلاحها وجعلها حكومة وحدة وطنية؟ لا شك ان هناك الكثير من الاسئلة المطروحة على الساحة والتي ينبغي ان نجد لها جوابا خاصة في مناسبة الاحتفال بالذكرى الراهنة للانتفاضة، لكننا للأسف لم نجد فصيلا واحدا قد اهتبل هذه المناسبة لتقديم دراسات أو اجابات على هذه الاسئلة. بل كل ما هنالك: ان انتفاضة الاقصى حدثت لتبقى وانها لن تتوقف الا بزوال الاحتلال وهذه كلمات في مجملها لا تبتعد عن الشعارات ولا تقدم أجوبة على ما يجري في الساحة من مستجدات، أولها تولي شارون السلطة وآخرها عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر العام الماضي وبين هذا وذاك كم ربحت القضية واين؟ وكم خسرت ولماذا؟ وهل هناك ضرورات لرسم مسالك جديدة؟

ان تلك الانتفاضة التي اكملت بالأمس سنتين من عمرها لا يمكن اعتبارها البداية والنهاية للقضية، فالكفاح الفلسطيني يتواصل منذ نصف قرن وأكثر، بل كانت قبله انتفاضة ولم يصاحبها مثل هذا الجزم بأنها لن تتوقف الا بزوال الاحتلال، وهذا يعني ان توقفها لا يعني نهاية النضال الفلسطيني، أو ان تعديل مسارها يعني التفريط في مبدأ زوال الاحتلال وانما الاصرار عليها بشكلها الراهن هو الذي يعني الجمود وعدم التفاعل مع المستجدات وعدم القدرة على استنباط المزيد من الوسائل لمواصلة الكفاح.

واذا جاز لنا ان نعقد مقارنة بسيطة بين بداية هذه الانتفاضة وما يقال الآن، لتوقفنا متأملين كل ما قيل وقتها ويقال الآن عن شارون، فهو بدخوله الأقصى كان السبب في اندلاع الانتفاضة، ودخوله الاقصى مصحوبا بشرارة الانتفاضة أدى الى اعتلائه سدة الحكم في اسرائيل، ووقتها كانت الاخطاء الفلسطينية لا تحصى وابرزها كان التعميم بأنه لا فرق بين شارون وباراك! أو الليكود وحزب العمل وصحب ذلك الامتناع عن التصويت لصالح حزب العمل الى آخره! الآن يرجح معظم المراقبين ان شارون لا يريد للعمليات الاستشهادية ان تتوقف، لأنها تمنحه المزيد من التمكن ومن سفك دماء الفلسطينيين وتساعده في توجهه الرافض للسلام، ولذلك يخشى من تسديد اية استحقاقات لدى الفلسطينيين عند اسرائيل، لأن دفع مثل تلك الاستحقاقات لا يتناسب مع توجهاته ولا تحالفاته مع المتطرفين مما يجعله على الدوام ينتظر بفارغ الصبر عملية استشهادية ليتحرك بأقصى درجة من درجات العنف لا على الجهة التي قامت بها فحسب انما على السلطة الفلسطينية واجهزتها ومقارها ورئيسها المحاصر منذ أكثر من عام وهو بالفعل قد أكمل اعادة اجتياح الضفة الغربية ويتوق لإكمال الاجهاز على السلطة وعلى الرمز عرفات!.

ترى هل يجوز ان نستخلص من عقد هذه المقارنة ان الانتفاضة نفسها كانت صناعة شارونية، نتيجة لفخ نصبه بتلك الزيارة الاستفزازية للأقصى؟!.. وهل يجوز الاعتقاد بأن الانتفاضة نفسها ساهمت بقدر كبير في ان يكسب الانتخابات ويصبح رئيسا لوزراء اسرائيل!

تلك مجرد اسئلة نتركها للتأمل، لكن ما نريده فعلا هو ان نتعلم ممارسة النقد لأعمالنا والمراجعة لما نعتقده من مسلمات والاستفادة من اخطائنا واخطاء الآخرين، وان نتذكر على الدوام اننا جزء من هذا العالم نتأثر بما يجري فيه اكثر مما نؤثر نحن فيه. وليست هنالك مناسبة أفضل من مناسبة الاحتفال بذكرى الانتفاضة لنراجع ونتراجع عن كل ما ينبغي التراجع عنه وان نهتدي بفضائل النقد ولا نعتبره نقيصة أو نمارسه خفية خوفا من ذوي الحناجر الضخمة التي يعلو صراخها سبابا وتخوينا لكل من يخالفها الرأي. وما لم نفعل ذلك سنظل في القوالب الجامدة نردد شعارات فارغة ونحلم بنصر لن يأتي ابداً.