حسابات السلام.. أصبحت شديدة التعقيد

TT

فرص السلام في منطقة الشرق الأوسط التي ظهرت مع مؤتمر مدريد عام 1991 تبددت ولم يعد هناك أمل واضح في امكانية تحقيق السلام بعد تداعيات الأحداث التي وصلت بالأمور الى حالة غير مسبوقة، منذ أن تولى ارييل شارون رئاسة الحكومة الاسرائيلية، ونجح في طي حزب العمل تحت عباءة الليكود وتشكيل حكومة وحدة وطنية تسيطر عليها أحزاب التطرف الديني، وأعلن رفضه وعدم اعترافه بالاتفاقيات التي سبق توقيعها بين الحكومة الاسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية.

ولم يكن هناك من بصيص نور لاضاءة الظلام الذي أسدله شارون على المنطقة سوى انتفاضة الشعب الفلسطيني، والتضامن العربي، والعون الخارجي من الدول والشخصيات الخيرة التي تؤمن بالسلام، ولكن ما حدث في الأيام القليلة الماضية كان شديد القسوة على النفس لما بعثه من شعور بالمهانة والاحباط وتوقع مزيد من الأخطار نتيجة عدوان القوات المسلحة الاسرائيلية على تجمع رئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله واحكام الحصار على ياسر عرفات وتدمير مخازن التموين وقطع امدادات الماء والكهرباء وهدم المباني وتحويلها الى أنقاض.

كانت هذه الأحداث حلقة في سلسلة جرائم ارييل شارون التي بدأت بتحديد اقامة ياسر عرفات في ديسمبر الماضي وحصاره ومنع حركته في اليوم التالي مباشرة لانعقاد القمة العربية في بيروت خلال مارس الماضي واصدارها مبادرة السلام العربية التي كان يمكن ان تصبح اساسا صحيحا لبناء السلام في منطقة الشرق الأوسط ثم تواصلت بدخول القوات المسلحة الاسرائيلية مدن الضفة الغربية وغزة ومهاجمتها بالطائرات وقتل واعتقال مئات من الأبرياء، حتى أصبح السلام سرابا ولم يعد هناك من أمل سوى استمرار الانتفاضة التي نحتفل هذا الاسبوع بمرور عامين على اشتعالها يوم 28 سبتمبر 2000، والتي أصبح اسلوب استمرارها ملاحقا بعلامات استفهام كثيرة.

وهكذا أصبح الموقف شديد الالتهاب، وأصبحت حسابات السلام شديدة التعقيد، ومن المؤسف ان تطالعنا الصحف ومنها صحيفتا «الشرق الأوسط» في هذا الوقت بالذات بأخبار مثيرة عن تحركات شخصيات عربية تعمل سرا مع عناصر اسرائيلية مشبوهة ومدانة بدعوى العمل من أجل السلام، وهي المجموعة التي عرفت بمجموعة «كوبنهاجن» والتي تشكلت منذ سنوات وضمت من اسرائيل ديفيد كيمحي رجل الموساد السابق وشيمون بيريز، وديفيد ليفي رئيس حزب «جيشر» أو الجسر والذي كان وزيرا لخارجية الليكود سابقا، مما دفع الهيئات الشعبية على امتداد الوطن العربي الى ادانة هذه المجموعة ونبذها وانهاء دورها الذي أخطأ الطريق وأساء الى سمعة أنصار السلام.

مجموعة «كوبنهاجن» لم تشأ أن تتعامل بعد ذلك مع الواقع، ولكنها ظلت تعمل سرا فعقدت اجتماعات في لويزيانا باميركا واثينا واستنبول حيث قررت يوم 6 سبتمبر تغيير اسم مجموعة «كوبنهاجن» لتفادي سمعتها السيئة لتصبح مجموعة «لويزيانا».

ومن «كوبنهاجن» الى «لويزيانا» طريق مريب ومسدود تمهده عناصر مشبوهة من الجانب الاسرائيلي، وعناصر ليس لها وزن من الجانب العربي من مصر والأردن وفلسطين لأنها منبتة الصلة تماما بجميع الأحزاب والهيئات الشعبية غير الحكومية

ولاشك ان نشاط هذه المجموعة التي بدأت خارج أحضان الشعوب العربية، وبعيدا عن ارادتها لا يمكن ان يثمر شيئا نافعا لقضية السلام، لأن الشعوب لا تمنح ثقتها للعاملين من أجل السلام بعيدا عن النور وفي الخفاء في اطار الاتصال بالأجهزة الأمنية، وتحدي الارادة الشعبية لأن الذي يعمل من أجل السلام لا يخفي نشاطه وانما يسعى لتسليط الأضواء عليه.

ومن مظاهر السير في الطريق الخطر أيضا استقبال بعض اعضاء المجلس المصري للعلاقات الخارجية لشيمون بيريز وزير خارجية اسرائيل اثناء زيارته للقاهرة واجراء حوار معه بعد المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه أحمد ماهر وزير الخارجية بكلمات حاسمة وواضحة ان سبب جميع المآسي في المنطقة هو احتلال اسرائيل للأرض العربي.

وكان واجبا أن توصد الأبواب في وجه شيمون بيريز من جانب الهيئات غير الحكومية المصرية، لأنه رغم حصوله على جائزة نوبل للسلام وفتحه مركزا للسلام في تل أبيب إلا انه يلعب دورا مساندا لارييل شارون منذ وضع حزب العمل تحت تحالف الليكود.

وأخيرا لا تعني هذه الكلمات مصادرة على حرية الحركة من أجل السلام، لأنه رغم مسؤولية شعب اسرائيل المؤكدة عن جرائم شارون لاختياره له رئيسا للوزراء فإنه ما زال في صفوف شعب اسرائيل من يطالب بالسلام ويناضل من أجله رغم انهم قلة غير مؤثرة ومغلوبة على أمرها في طوفان التطرف الذي تبعثه افكار الصهيونية التوسعية. ومازال بين قادة دول الاتحاد الأوروبي ودول العالم من يساند حق شعب فلسطين في تحرير أرضه واقامة دولته المستقلة، بل هناك في اميركا رغم سيطرة العناصر الصهيونية من يدرك حقائق الأمور بصدق وانسانية. وعلى سبيل المثال «ليندون لاروش» المرشح الديمقراطي المحتمل لانتخابات الرئاسة الاميركية القادمة عندما قال إنه يحاول انقاذ الحضارة وأن القضية في الشرق الأوسط قضية عادلة لهذا فإنه مضطر الى الاستجابة الى أهدافها الانسانية، والوضع في تلك المنطقة أشبه ما يكون بقنبلة يدوية يلقي بها على الحضارة ولا محالة لها من أن تدمر نفسها في أثناء تلك العملية، ذلك ان اسرائيل هي ثالث دولة نووية في العالم ولكنها آخذة في تدمير نفسها، وقد أدرك اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل الأسبق وآخرون غيره في اسرائيل ذلك ولكن هؤلاء اقلية وتوجد الى جانبهم مجموعة من المتعصبين المصابين بما يسمى بعقدة «المسادا» وهم مستعدون عن غباء لأن يموتوا كما أنهم آخذون في تقتيل الآخرين، غير أنهم لا يمكنهم أن يكسبوا حربا من النوع الذي يحاولون شنه، كما لا يمكنهم أن يحصلوا على الامبراطورية التي يحلمون بها.

وهكذا فإن رغم تضاؤل فرصة التسوية السلمية في الشرق الأوسط، وانحسار الأمل في تحقيق السلام، إلا ان النضال من أجل السلام يجب ألا يتوقف شرط أن يمضي في الطريق الصحيح ومع العناصر التي تعبر بصدق عن ارادة شعوبها.