قانون الكونجرس: (تمرد) على القانون الدولي

TT

ملأ مسؤولون امريكيون ـ في القمة ـ : الأفق الدولي: السياسي والفكري والاعلامي والقانوني بـ(تحذيرات) متوالية خلاصتها: ان مستقبل العالم والأمم المتحدة جد مظلم، ما لم تنهض الأخيرة بمسؤوليتها ووظيفتها في الزام العراق بقراراتها المتعلقة بنزع اسلحة الدمار الشامل.

والتحذيرات والمخاوف صحيحة من حيث المبدأ، فتجاوز القانون الدولي أدى الى الحرب العالمية الأولى.. وتجاوز عهد عصبة الأمم قاد الى الحرب العالمية الثانية.. ولقد نصحنا العراق غير مرة بأن من مصلحته الوطنية: ان تجد القرارات الدولية أرضه رخاء أمام المفتشين الدوليين، وهو نصح أو مشورة مقدمة للطرف الآخر الذي تبدو تصرفاته وكأنها (تعجيز) للعراق. بمعنى جعله عاجزا عن الوفاء بالالتزامات الدولية، وذلك بوضع عقبات لا آخر لها بين يدي مهمة المفتشين الدوليين: تمهيدا لتنفيذ نية مبيتة وهي: ضرب العراق.

بيد ان الشاهد اليوم ـ في مسألة تجاوز القانون الدولي والأمم المتحدة ـ هو (القانون) الذي اصدره الكونجرس الأمريكي والذي يقضي بنقل السفارة الامريكية الى القدس، وهو نقل يعني ـ مباشرة ـ : ان القدس (عاصمة) لاسرائيل.

ومما لا ريب فيه: ان القانون الأمريكي تجاوز للقانون الدولي، والغاء لشرعية الأمم المتحدة، من خلال (المروق) على قرارات مجلس الأمن الصريحة الحاسمة في هذا الشأن.

لنضع قانون الكونجرس الأمريكي في الذهن.. ولنقرأ ـ في اللحظة ذاتها ـ القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن.. تم لنبصر، بعينين مفتوحتين، وعقل حاضر، وضمير حي: كيف (مرق) القانون الامريكي من القانون الدولي؟.. وكيف تجاوز الهيئتين الكبيرتين المختصتين بالحفاظ على (النظام الدولي) وبالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين من ثم؟

1 ـ عام 1967، طلبت الأمم المتحدة ـ من خلال القرار رقم 2253 ـ من اسرائيل: العدول التام عن كل الاجراءات التي اتخذت فيما يتعلق بالقدس، والامتناع الفوري عن كل عمل يغير وضع القدس.

2 ـ عام 1962، اصدر مجلس الأمن قراره ذا الرقم 252.. ونص هذا القرار في فقرته الثانية على: «ان جميع الاجراءات الادارية والتشريعية، وجميع الأعمال التي قامت بها اسرائيل بما في ذلك: مصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها ان تؤدي الى تغيير في الوضع القانوني للقدس، هي اجراءات باطلة، ولا يمكن: ان تغير في وضع القدس».

3 ـ عام 1969، اصدر مجلس الأمن قراره ذا الرقم 267.. ومما جاء في هذا القرار: ان المجلس «يدعو اسرائيل مرة أخرى بالحاح الى ان تبطل جميع الاجراءات التي تؤدي الى تغيير وضع مدينة القدس، كما يطلب منها ان تمتنع عن اتخاذ اجراءات مماثلة في المستقبل».

4 ـ في اثر إقدام يهودي من طراز (ارييل شارون) على اشعال حريق في المسجد الأقصى، اصدر مجلس الأمن ـ عام 1969: القرار رقم 271، يدين فيه اسرائيل.. ومن نصوص هذا القرار: «يدين المجلس فشل اسرائيل في الالتزام بالقرارات السابقة للمجلس، ويدعوها الى تنفيذ نصوص هذه القرارات. كما يدعوها الى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف، وبالقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري.. والى الامتناع عن اعاقة المجلس الاسلامي الأعلى في القدس عن القيام بمهماته، بما في ذلك اي تعاون يطلبه ذلك المجلس من دول اكثرية شعوبها من المسلمين، او من مجتمعات اسلامية بما يتعلق بخططها من اجل صيانة واصلاح الأماكن الاسلامية المقدسة في القدس».

5 ـ عام 1971، اصدر مجلس الأمن القرار 298.. وجاء في هذا القرار: «يؤكد مجلس الأمن بأوضح العبارات الممكنة: ان جميع الأعمال التشريعية والادارية التي قامت بها اسرائيل لتغيير وضع مدينة القدس، ومن ضمنها: مصادرة الأراضي والممتلكات ونقل السكان والتشريع الذي يهدف الى ضم القطاع المحتل.. هذه الأعمال لاغية كليا، ولا يمكن ان تغير ذلك الوضع».

6 ـ عام 1980، اصدر مجلس الأمن القرار 476. وقال في قراره هذا: «ان المجلس يعبر عن القلق البالغ لدى المجموعة الدولية بشأن الخطوات التشريعية التي أبداها الكنيست الاسرائيلي بهدف تغيير معالم مدينة القدس الشريف ووضعها».

7 ـ عام 1980 ايضا، أقدم الكنيست الاسرائيلي على سن قانون اساس يهدف الى تغيير طبيعة القدس وطابعه.. هنالك اصدر مجلس الأمن القرار المطول المفصل رقم 478.. وهذه هي الفقرات الأهم في القرار:

أ ـ «يؤكد المجلس: ان مصادقة اسرائيل على القانون الأساس تشكل انتهاكا للقانون الدولي، ولا تؤثر في استمرار انطباق اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في اغسطس عام 1949، والمتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب على الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية التي تحتلها اسرائيل، بما في ذلك القدس.

ب ـ «ويقرر: أن جميع الاجراءات والأعمال التشريعية والادارية التي اتخذتها اسرائيل: القوة المحتلة، والتي غيرت معالم مدينة القدس الشريف ووضعها واستهدفت تغييرها خصوصا القانون الأساس الأخير بشأن القدس، هي اجراءات باطلة اصلا، ويجب الغاؤها.

ج ـ «يقرر مجلس الأمن: عدم الاعتراف بـ(القانون الأساس) وغيره من اعمال اسرائيل التي تستهدف نتيجة لهذا القرار: تغيير معالم القدس ووضعه.

د ـ «يدعو مجلس الأمن جميع الدول الاعضاء في الأمم المتحدة الى:

أولا: قبول هذا القرار (أي قرار مجلس الأمن).

ثانيا: دعوة الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس الى سحب هذه البعثات من المدينة المقدسة».

في ظل هذه القرارات الدولية، الصادرة عن أعلى سلطة دولية، في عالمنا وعصرنا، وهي مجلس الأمن.. في ظل هذه القرارات الدولية الملزمة للجميع، يمثل قانون الكونجرس الأمريكي القاضي بنقل السفارة الامريكية الى القدس: (مروقا) صريحا ـ لا يقبل التأويل ـ من الشرعة الدولية، والقانون الدولي.

فالشرعة الدولية تقول: إن جميع التشريعات والاجراءات التي تتخذها اسرائيل في مدينة القدس: لاغية كلها.. في حين يعترف القانون الامريكي بشرعية ما ألغاه مجلس الأمن!

والشرعة الدولية تقول: ان القانون الأساس الاسرائيلي الرامي الى تغيير طبيعة القدس، انما هو قانون باطل أصلا، ويجب الغاؤه.. في حين ينبني قانون الكونجرس الأمريكي، على القانون الاسرائيلي: الباطل دوليا!

والشرعة الدولية تدعو كل دولة ـ لها علاقة مع اسرائيل ـ الى سحب بعثتها الدبلوماسية من القدس.. في حين يطالب قانون الكونجرس الأمريكي بنقل سفارة الولايات المتحدة الى القدس!!!!

ولسنا ندري: لماذا تفعل الولايات المتحدة هذه الأفاعيل بنفسها؟ لماذا تصم مبادئها ومصداقيتها وتاريخها بهذه الوصمة؟

لماذا؟.. لماذا؟.. لماذا؟.. أهو من اجل حفنة من الأصوات في انتخابات نوفمبر القادم؟.. أم هو من أجل حفنة من الدولارات لتمويل تلك الانتخابات؟

ان الولايات المتحدة بمبادئها وتاريخها ومسؤوليتها الدولية: اكبر من هذه (الاهتمامات الصغيرة).. أم ان الدافع هو (تعصب ديني) يفضل الديانة اليهودية ويرسخها في قضية القدس (وهي قضية دينية)، بالانتقاص من حقوق الديانة الاسلامية؟..

ان هذا نزوع أو تصرف مخالف للدستور الامريكي نفسه.. فالتعديل الأول من هذا الدستور ينص على انه: «لن يصدر الكونجرس اي قانون بصدد ترسيخ الدين أو منع ممارسته».

لا شك في ان الغلاة في امريكا يريدونها (حربا دينية) بين الولايات المتحدة والعالم الاسلامي، ويريدون ـ من ثم ـ ان تكون (القدس) هي (ميدان) هذا الصدام الديني الرهيب.

ولكن ما موقف الرئاسة الامريكي، الحفيظة على مصالح الولايات المتحدة وأمنها وسلامها، بإزاء ذلك كله؟

نعم.. لقد تحفظ الرئيس الامريكي جورج بوش على فقرات في ذلك القانون ومنها: فقرة تتعلق بمسألة القدس.. بيد ان هذا التحفظ لا يكفي:

اولا: لأنه تحفظ محدود يأتي في ظروف تكاثرت فيها القرائن على ان الولايات المتحدة، او بعض مسؤوليها، غير زاهد في الكيد لمسلمي العالم.

ثانيا: ان لدى الرئيس الامريكي من الصلاحيات ـ في مجال الشؤون الخارجية ـ ما يمكّنه من تصحيح الوضع بما ينسجم مع الشرعة الدولية، وبما لا ينطوي على استفزاز عقدي وسياسي حاد لمسلمي العالم.

ومن هذه الصلاحيات: ان الرئيس الامريكي هو الممثل الوحيد للولايات المتحدة في علاقاتها الخارجية، وان سلطته في هذا المضمار هي سلطة (اصلية)، وان الكونجرس نفسه اصدر عام 1799 قانوناً أكد فيه: أحقية سلطة الرئيس في الانفراد بتمثيل الولايات المتحدة في علاقتها بالدول الأخرى، وان المحكمة العليا الامريكية اصدرت حكما عام 1936 جاء فيه: «كما قال مارشال في مناقشته الكبرى في السابع من مارس عام 1800 بمجلس النواب: ان الرئيس هو العضو الوحيد في الأمة في علاقتها الخارجية وهو ممثلها الوحيد مع الأمم الأجنبية».. وقد استقر العرف والفقه الامريكيان على ان الرئيس وحده هو الذي يملك سلطة مطلقة في الاعتراف أو عدم الاعتراف بالدول والحكومات.. وبناء على هذا يستطيع ـ من باب اولى ـ : ألا يعترف بالقدس عاصمة لاسرائيل.. فهل يفعل.. أم ان البشرية مقبلة على فوضى عالمية بقيادة امريكا؟!