حرب على الذاكرة

TT

تعرض مركز رايد للتنسيق والمتابعة في دولة الامارات العربية المتحدة لحملة شرسة من الأوساط الصهيونية، اثر ندوة نظمها حول مفهوم «السامية»، وصيغ توظيف هذه المقولة في الادبيات الصهيونية.

وعلى الرغم من ان الندوة لم تخرج عن الاعتبارات العلمية والفكرية، وهي سمات المركز المذكور في نشاطاته الثرية المتنوعة، الا ان الاقتراب من هذا المفهوم ومساءلته في ضوء التجربة الاسرائيلية من المحظورات، حتى في القطاع الاكاديمي والبحثي.

وقد تزامنت هذه الحملة مع حملة مماثلة تعرض لها السفير السعودي السابق في لندن، د. غازي القصيبي، الذي نظم قصيدة في رثاء الاستشهادية الفلسطينية «آيات الأخرس»، كما تعرضت صحيفة «الاهرام» المصرية للمتابعة القضائية في باريس للسبب ذاته.

ولم يعد من السر ان جهات غربية عديدة، خصوصا بعض اوساط الادارة الامريكية، تسعى الى ممارسة ضغوط صارمة ـ باسم الحرب المعلنة ضد الارهاب والتطرف ـ على الاعلام العربي المكتوب والمرئي لتغيير مصطلحاته ومقولاته التي تحمل نزعة عدائية لاسرائيل وللمؤسسة الصهيونية، من منطلق التوصل لثقافة سلم تسند جهود التسوية الشرق اوسطية المتعثرة.

وقد وصلت الضغوط المذكورة حد التدخل في البرامج التعليمية والمقررات التربوية، وذهب احد الكتاب المرموقين في فرنسا الى المطالبة باقتطاع اجزاء كاملة من القرآن الكريم، بذريعة كونها تشجع على كراهية اليهود. ويجري في فرنسا حاليا نقاش واسع على اعمدة الصحف في هذا الاتجاه.

صحيح ان الخطاب العربي حول الصهيونية والمشروع الاسرائيلي، يعاني من ثغرات خطيرة، كنت قد عالجتها مطولا في كتاب لي صادر هذه السنة، فلا يزال التأثير الثقافي العربي محدودا للغاية في الدوائر الفكرية والاعلامية الغربية التي تهيمن عليها القبضة الصهيونية. ولئن كانت للظاهرة اسباب موضوعية تعود لطبيعة وخلفية الحضور اليهودي في المجتمعات الغربية المعاصرة (وهي خلفية معروفة للجميع بما فيه الكفاية)، الا ان التقصير العربي كبير، نادرا ما يتم الاقرار به. فلا نكاد نجد اليوم متخصصين عربا حقيقيين في الشؤون الاسرائىلية، ومراكز الدراسات المعنية بالشؤون الاسرائىلية والصهيونية قليلة ومحدودة الفائدة والتأثير.

بيد ان الإشكال الذي يستأثر باهتمامنا لا يتعلق بثغرات الخطاب السياسي العربي، بل بما يبدو حربا حقيقية تستهدف الذاكرة العربية، وتنتزع من الثقافة العربية حقها الاساسي والأولي في توصيف الواقع والتعبير عنه، اي واقع الاحتلال والاستيطان العنصري في فلسطين. ولمصادرة هذا الحق مجموعة آليات، من ابرزها:

ـ حجب وضعية الاحتلال بتنزيل الصراع العربي ـ الصهيوني في مسار مأساة الشعوب اليهودية، ومن ثم تحميل الضحية العربية دورا في هذه المأساة التي كانت اوروبا مسرحها (ظاهرة صناعة الهولوكست التي درسها فرانكشتاين).

ـ مصادرة حق المقاومة المشروعة بذريعة استحقاقات «عملية السلام» التي فشلت موضوعيا حسب اقرار الحكومة الاسرائىلية نفسها، وحسب المعطيات العينية.

وغني عن البيان ان تداعيات احداث 11 سبتمبر قد ولدت آلية جديدة من آليات الحجب، هي الحرب المعلنة ضد الارهاب، التي تم تعميمها على الساحة الشرق أوسطية، بحيث تبنت الادارة الامريكية مقاربة شارون الاستئصالية للسلطة الوطنية الفلسطينية حسب النموذج الامريكي في افغانستان (تقويض حركة طالبان وتنظيم القاعدة المتحالف معها).

ان المطلوب اليوم هو بلورة خطاب سياسي واعلامي عربي فعّال لمواجهة الحرب المعلنة على الذاكرة العربية والعالمية، بشأن الجرائم الاسرائىلية في فلسطين.

ولأجل هذا الغرض، لا يكفي استخدام قاموس التجييش العاطفي، ولا ترديد الشعارات المعادية لليهود الممجوجة بالنسبة للوعي الغربي.

وبطبيعة الامر، لا بد من تفكيك وتقويض «صناعة الهولوكست» التي تتخذ اشكالا قانونية رادعة ضد اي نقد للممارسات الاسرائيلية او للآيديولوجيا الصهيونية بذريعة «العداء للسامية».

ان اي خطاب عربي فعال، لا بد من هذا المنظور ان يراعي منطلقات ثلاثة اساسية:

أولها: التمييز الواضح والصريح بين الديانة اليهودية والآيديولوجيا الصهيونية التي لا تنفصل عن مناخ الدعوات القومية العنصرية التي ظهرت في اوروبا في القرن التاسع عشر، وهي دعوة لائكية لا دينية، حتى ولو استغلت الغطاء الديني لبناء ارضيتها التعبوية وشحذ طاقتها الاستقطابية ومن ثم ضرورة بلورة خطاب مفتوح على الوجوه الفكرية والسياسية اليهودية الرافضة للمشروع الصهيوني، باعتباره عقد «المشكل اليهودي» وضاعفه ولم يفض لحله.

ثانيها: تدوين الجرائم الاسرائىلية ضد الشعب الفلسطيني، وابرازها في ما وراء الظرفية السياسية المباشرة في ابعادها الانسانية، ومن ثم ايصال صورة بشاعة الاحتلال والاستيطان الصهيوني بالوسائل الاحدث والاكثر تأثيرا الى الرأي العام الغربي.

ثالثها: استغلال الفرص المتاحة اليوم في التشريعات الدولية الجديدة لمقاضاة مجرمي الحرب الاسرائيليين، وعلى رأسهم اركان الدولة الصهيونية المنحدرين في مجملهم من المؤسسة الأمنية والعسكرية القمعية.