ليالي الأُنْس.. هل ولّت؟!

TT

في حوار أجرته معي مجلة «اليمامة» السعودية، سألني الصحافي المحاور: هل هناك علاقة بين الإنسان العربي والحجر؟! تأملت فحوى السؤال، ليس من قبيل ترددي في القبول أو الرفض، فهو أمر محسوم لكنه مرير الطعم، لقناعتي الذاتية بأن هناك بالفعل علاقة حميمية تربط بينهما، كون الاثنين يخضعان صاغرين لعوامل التعرية، ولا يحاول أي منهما تطوير أدواته للذود عن نفسه من الرياح والعواصف! والنتيجة الواضحة للعيان أن الإنسان العربي أضحى مشوها، مجدوع الأنف، مبتور اليد، مكسور الساق، ولم يعد الأمر مقتصرا على مجتمعات بعينها، بل تحول جلُّ الأفراد داخل المجتمعات العربية إلى معاقين، ممنوع عليهم المشاركة في المسابقات العالمية كونها مقتصرة على الاصحاء، المعافين جسديا، أما هم فمكانهم هناك في أندية المعاقين!

جميعنا ونحن نستمع للأغاني القديمة، نتذكر أغنية أسمهان الشهيرة «ليالي الأنس في فيينّا»، والتي تؤكد للأسف أن مجتمعاتنا العربية ما زالت تعيش أحزانا مستمرة، ولست أعني الأُنْس الشخصي وما أكثره في أزقتنا الخلفية، وإنما أعني الأنْس الإنساني الذي ما زال ثمرة محرمة، محظورا على المجتمعات العربية قطفها، وأصبح كل عربي يملك شيئا من النخوة، يحس برجفة الغضب والقهر وهو يداعب مفاتيح «الريموت كونترول»، ويقلب القنوات الفضائية، ليجدها جميعا بلا استثناء تصب أخبارها في الأحوال المؤسفة التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية.

صدقوني لن نعرف معاني الأُنْس الحقيقية إلا إذا راجعت المجتمعات العربية نفسها، وأعادت تربية أجيالها القادمة على تغيير هذا الواقع المزري، الذي أصبح أمر اصلاحه مستحيلا! لنعترف بأن الأجيال الصاعدة تجهل كيف تبني أوطانها، وهذا ليس خطأها، ولكن خطأ مؤسساتها بأشكالها المختلفة، التي تحاول قدر الإمكان إبعاد أجيالها عن هموم واقعها، ومنعها من المشاركة السياسية، بجانب الترويج لنظريتهم الضيقة لمفهوم الحرية! وهنا تحضرني عبارة للمفكر العربي الدكتور زكي نجيب محمود الذي يرى بأن الحرية في عالمنا العربي تُؤخذ فقط من جوانبها السلبية، على السياسية كافة، مؤكدا أن التحرر أمر محتوم، لكن الحرية ليست فقط شكلا خارجيا يتم بإزالة الأغلال من القدمين، لأن الإنسان سرعان ما يكتشف أن قدميه ما زالتا عاجزتين عن السير! لماذا؟! لأن السير إلى الأمام بلا هدف يعني الجمود، كما أن الأغلال التي ما زالت تُقيّد العقول، جعلتها تفشل في بناء قواعد متينة لحياتها الجديدة، مطالبا بإعادة تربية الإنسان العربي من جديد على هذا المفهوم الواسع للحرية، حتى يستطيع المطالبة بحقوقه بإدراك ووعي كاملين.

ما سطره المفكر العربي يُجسّد الواقع، مع هذا ما زالت مجتمعاتنا العربية تصر على تلقين الأجيال الصاعدة، المبادئ الأولية للسذاجة الفكرية، على الرغم من أنهم يتعلمون على مقاعد الدراسة أن واحدا زائد واحد يساوي اثنين، إلا أن الناتج لديهم دوما مجموعة أصفار على اليمين! لأن نظرية بناء المستقبل لا تشغل حيزا واسعا على خريطة العالم العربي. حتّى في أفلامنا، دوما نروج لقاعدة غلبة الخير على الشر، لأن الناس دوما تهوى النهايات السعيدة. كيف، وبأي وسيلة؟ لا أحد يدري! لا بد أن أنها تُلقّن الأجيال الجديدة على أن الحقوق لا تأتي على أطباق من الفضة وهي واضعة ساقا على ساق، ولا تعود باللف على بيوت المشعوذين والدجالين لفك الأسحار المعمولة لها، هذه كلها حلول عشوائية، الحل أن تؤمن في أعماقها أن الخير لن ينتصر على الشر إلا بمصارعة الشر ودحر الظلم، الذي لن يتم إلا بسواعد قوية وأسس راسخة، والتنقيب عن أسّ الداء وجزه من جذوره. تقول الكاتبة فاطمة المرنيسي في كتابها «شهرزاد ليست مغربية »، ان السيد نوثار، المفكر الياباني، والأستاذ بالقسم العربي في جامعة الدراسات الأجنبية، قال لها: «لقد أقمت في القاهرة سنتين.. أشعر أن العرب لا يستخلصون العبر من تاريخهم الحديث، ولا يستخلصون العبر من هزائمهم.. لقد جعلت منا أمريكا بلد متسولين عام 1942 لكننا اتخذنا القرار بأن نفهم ما يجري في العالم لنتمكن من بناء مجتمع ياباني لا يمكن الهيمنة عليه». هذه الحقائق التي نسمعها من حين لآخر تصيبنا بالهلع، لكنه رد فعل وقتي، وها هي أمريكا اليوم على يد رئيسها جورج بوش، توقع على القرار الذي تقدم به الكونجرس المتضمن الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، مولية ظهرها لقرارات الأمم المتحدة، متحدية مليارا ونصف المليار مسلم أن يعارضوها، مرددة بصوت أجش.. «اللي يحصّلني يكسّرني»!! وبما أننا لا نستطيع أن نتحداها فالأفضل أن ننفس الآهات بصوت مكتوم. ضحكت بمرارة وأنا أستمع لأحدهم عبر إحدى القنوات الفضائية وهو يقول منفعلا: إن أمريكا مثل الرجل «الفتوة» الذي خلع ملابسه ونزل إلى الشارع عاريا، والشرر يتطاير من عينيه، متوعدا بدحر كل من يحاول توبيخه على هذا الفعل الفاضح! هذه الصورة بالفعل نراها في بعض الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ، التي تصف مرحلة «الفتوات» في مصر، وكيف كانوا يسيطرون على الحارات، لكن كعادتنا دوما، نقشط سطح اللبن ونسكب بقيته على الأرض!

الملاحظ أن توقيع القرار جاء متلازما مع دخول انتفاضة القدس عامها الثالث، ولا يملك المرء إلا أن يبدي حسرته، وينفطر قلبه، وهو يشاهد الأفلام الموثقة التي تبين فداحة ما يجري في أرض فلسطين، والشباب والأطفال الذين قدموا أرواحهم فداء لوطنهم، والمسلسل البطولي لصمود هذا الشعب الباسل. وقد يتسلل إلى المرء، شعور بقلة الحيلة، وهو يرى ما يجري لإخوته هناك، وهو يقف مكتوف اليدين، ولا يفيق إلا على كلمة النهاية، فيمسح عينيه المدمعتين، ويدور على عقبيه، وكفى المؤمنين شر القتال!

سيقام في بغداد قريبا، مؤتمر القدس السنوي الرابع، لم تعد الشعوب العربية تأبه للقرارات التي تعلن بعدها، ولم تعد متعطشة لمثل هذه المؤتمرات، ولم تعد تأمل خيرا من هذه الاجتماعات التي تنعقد بين حين وآخر! الشعوب العربية باتت تتطلع لأفعال وليس لأقوال، بعد أن ملت من ترديد شعارات الاستسلام.. عفواً أقصد شعارات السلام! أقولها بخجل.. لقد أغلق الجميع نوافذهم، واوصدوا ابوابهم، وصمّوا آذانهم، ولم يعد أحد يلتفت لطبول المسحراتي، التي تدق طوال الوقت لتوقظ الناس من سباتهم، وتنبههم قبل ان يحين موعد الإمساك. المشكلة أنه لم يعد يوجد من يرغب في تمييز الخيط الأبيض من الأسود، فكل شيء في العروبة أضحى رمادي اللون!