الشعر يا أمة الشعر

TT

الشعر صعب وطويل سلمه، وكثيرون يصعدونه دون معرفة ولا موهبة، فتزل بهم اقدامهم الى الحضيض، وليسوا وحدهم انما معهم جملة من اصحاب المعارف والمواهب الشعرية، فأمة الشعر صارت القصائد في آخر سلم اهتماماتها الصعبة والسهلة، وما بينهما.

واذا نظرت حولك بعد عشرين عاما من الآن فلن تجد قامة شعرية كالقامات الكبيرة التي رحلت في الحقبة الاخيرة، ولا كالقامات الموجودة في زماننا، وبعضها كبير فعلا، وبعضها يرتدي القبقاب ليبدو طويلا، وينجح لأن القامات الشعرية تتقزم باستمرار وكلما مضينا صعودا في الزمن وليس في السلم ستكون مهمة القزم الذي يريد ان يتعملق اسهل.

وان سألتني الرأي ام لم تسأل سأقوله لأفش خلقي وخلقك في أمة الشعر التي صارت طاردة لكل المواهب، فنحن «يا عبعال» نقول ولا نفعل، ونصرح ولا ننفذ، ونعد ولا نفي، ونريد ان نحصد دون ان نزرع، ونبحث عن قامات شعرية ساحقة دون ان نفعل شيئا للشعر، وأهله، والشعر كالنخيل يحتاج عناية دائمة ليتسامق.

في فرنسا «يا عبعال» وحين واروا جثمان اراجون الثرى كانوا يسألون مثل اسئلتنا ولم يتوقفوا عند مرحلة السؤال انما وضعوا مجموعة فرضيات، وخطط وبدأوا ينفذونها، فاهتمت الصحف بالشعر وكذلك الجامعات، ودور النشر ونجحوا ام لم ينجحوا ليس ذاك المهم، الأهم انهم حاولوا، ونحن لا نحاول، ولا نهم بالمحاولة.

وفي بريطانيا مطلع التسعينات قامت حركة مماثلة لانعاش الشعر، فاتفقت عدة دور نشر منها «كيب» و«جاتو» و«اكسفورد» و«فيبر» على ان تتبنى كل دار نشر شاعرا من عشرين اعتبروهم الاهم بعد الجيل الكلاسيكي الذي روجت له اكسفورد وكامبردج وبلغ ذروته على ايدي «اندرو موشن» و«بليك موريسون» في كتاب المختارات الذي حمل اسم الاثنين وصدر عام 1982 فاتنبه الناس الى ان الشعر اصبح احتكارا لمؤسستين تقليديتين ويجب كسر ذلك الاحتكار، بفتح آفاق جديدة امام الشعر الانجليزي، وهكذا كان وجرى.

وبعد هذه الـ«هكذا» بدأت الصحف اليومية تنشر الشعر، ومحطات الانفاق تكتبه بالخط العريض في محطاتها ليصطبح به المارة ويغتبقوا، وولدت فكرة اليوم الوطني للشعر الذي بدأوا يحتفلون به منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 1994، وتسابق المهتمون لانشاء جوائز شعرية كان اشهرها جائزة «وليام سيجهارت»، وقيمتها عشرة آلاف جنيه استرليني، وهذا المتحمس ليس ثريا ولا رجل اعمال كبير انما مجرد صاحب دار نشر متواضعة اسمها «الى الامام» لكن من قال ان الفلوس تصنع شيئا دون حماس واقتناع وايمان حقيقي بالقضية المراد معالجتها والترويج لانتصارها.

والآن هل نريد ان ينتصر الشعر ويعود الى مكانته العالية عند أمة الشعر....؟

اذا كان الجواب نعم فهناك عشرة آلاف وسيلة أولها عدم وضع الشاعر بالسجن بعد كل قصيدة انتقادية ناجحة، وعدم فصل من ينشرون ابداعه، وعدم تركه يموت جوعا على قارعة الطريق هو وعائلته، وعدم التضييق على حريته، وحرية كافة المبدعين امثاله، والحفاوة به في الجامعات والمنتديات، وليس في الزنازين والأقبية حيث الاهتمام على ايقاع الطويل والمديد والكامل وكافة بحور الخليل الشعرية والسرية.

وهذه «العدمات» كلها عنوان واحد لغياب الفضاء الحر الذي يحبط الجنين الابداعي قبل ان يولد وينمو، وبعد توفره وهو الاساس تأتي المبادرات الاكاديمية والاعلامية والجماهيرية لتحتفي بكل من تظهر عليه بوادر الموهبة الحقيقية بدلا من توجيه الاهتمام الى الناطق الحزبي المتشعرن، وبواب الرئاسة الفحل ابن خالة الوزيرة، والوزير.

نحن ندري ان الفنون تشعبت وتكاثرت وبعضها سرق جمهور الشعر لكن الامكانية ما تزال متاحة لاعادة الرونق والبهاء الى ذلك الفن العظيم الذي ضاع بين فنون رخيصة تلائم ظروف الاقزام الذين اتقنوا فن التعملق الوهمي، وتتوافق مع الذوق الهابط للمرحلة ومع المشجعين على تحطيم كل ذوق سليم، وكل فن عظيم.