نعم لتغيير المناهج التعليمية.. لا لتغيير النهج

TT

ترددت في الآونة الاخيرة اصوات كثيرة عبر وسائل الاعلام المختلفة، الغربية والعربية والمحلية، تناقش الدعوة الى تغيير المناهج التعليمية في المملكة العربية السعودية. وقد اختلفت الدوافع والاهداف من وراء هذه الدعوة. بعضها دوافعه واهدافه تطوير العملية التعليمية من ناحية تربوية واكاديمية بحتة تفرضها ظروف التطور والتنمية وخلافه. والبعض الآخر، لا سيما وسائل الاعلام الغربية المغرضة، دوافعه واهدافه تشويه العملية التعليمية والتربوية في السعودية وربطها، اي المناهج والتربية والتعليم، بما حدث ويحدث في العالم من احداث مؤسفة، لا سيما احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001، فقد لا يخلو مقال صحافي او حوار تلفزيوني من التطرق الى هذا الموضوع بصورة او بأخرى، وكأن مناهجنا وتربيتنا وتعليمنا هي السبب في ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم، لا سيما الاعلام الغربي على وجه العموم، والامريكي على وجه الخصوص، الذي سيس هذا الموضوع بعد الحادي عشر من سبتمبر، وصوره على انه من العوامل الرئيسية لتنمية وتفريخ الارهاب.

صحيح ان منا فئة قليلة اتهمت بالمشاركة في ما حدث، لكنها ليست العقل المدبر وليست المخطط لما حدث، بل حسب شهادة وتصريحات زعماء هذه الفئة، فان اغلبهم (اي السعوديين)، لا يعلمون اهداف او تأثيرات تلك العمليات التي ربطت ظلما وبهتانا بمناهجنا وطرق تعليمنا.

معظم المخططين ومعظم قادة وزعماء الارهاب لم يتعلموا في المدارس السعودية، ولم يدرسوا المناهج السعودية، بل قد اسمح لنفسي بأن اقول إن بعضهم لم ير السعودية او يعش فيها، بل درسوا في مدارس خارج السعودية وبعضها مدارس غربية، ووفق مناهج مختلفة جدا عن مناهج التعليم السعودية. ولذا فمناهجنا براء مما حدث ومما تتهم به.

هذه الفئة تشبعت، او اعتنقت، فكرا ضالا ظهر في الآونة الاخيرة خارج السعودية، وانتشر في كثير من البلاد الاسلامية وغير الاسلامية، وابتليت به السعودية من ضمن من ابتلي به، وعانت منه كثيرا من ضمن من عانى، لهذا لنكن منصفين وعقلانيين في نظرتنا الى هذا الامر.

نعم، نحن في حاجة ماسة الى تغيير مناهجنا وتطويرها ومراجعتها وحذف ما يجب حذفه، واضافة ما يجب اضافته، ليس للاسباب التي يتهمنا بها الآخرون، ولكن لأن مصلحتنا القومية وظروفنا المحلية والاجتماعية والاقتصادية والاكاديمية، تفرض علينا ذلك. واذكر ان هذا الموضوع كان من ضمن اولويات المخططين والراسمين لسياستنا التعليمية إبان عملي في وزارة المعارف، وذلك قبل احداث 11 سبتمبر بعشرين عاما. واستمر هذا الهاجس والرؤية عبر السنوات الماضية وحتى 11 سبتمبر وبعده. كما ان العملية التعليمية لا تقتصر فقط على المناهج، بل على عوامل عديدة منها إعداد المعلم، والخطط الدراسية (اي عدد المواد المقررة على الطالب في كل مرحلة من مراحل التعليم)، واعني هنا التعليم العام وغير ذلك من المواضيع المختلفة التي يعرفها المتخصصون في هذا المجال، وعلى سبيل المثال النظام التعليمي والبناء المدرسي والكتاب المدرسي والوسائل المساعدة.. الخ.

ولست هنا لاجراء بحث عن التعليم ومشاكله واحتياجاته في السعودية، فهذا الموضوع يطول شرحه، فعملية التعليم والمناهج ركيزتها كائن حي متحرك متطور متغير، وليست جامدة خاملة وساكنة، فهي، اي المناهج، كانسان يولد طفلا، ثم يشب، ثم ينمو ويتطور ويكبر ويتغير عقلا وجسما، وفق ما تمليه ظروفه الحياتية والعملية والمعيشية.

فالانسان في فكره وجسمه ليس جامدا غير متغير، بل هو دائم التغير والتبدل وفق ما تمليه ظروف عمله وحياته، وهو دائم التطلع والطموح لتحقيق الافضل والامثل والاصلح في حياته (ما اقصده هو الانسان السوي)، وهكذا المناهج تتطلب التعديل والتغيير والتبديل والاكثار والتقليل والتطوير الى الافضل وفق ما تمليه ظروف البيئة والمجتمع ومتطلباته الفكرية والعملية والاقتصادية والعلمية، فما هو صحيح بالامس، قد يثبت خطأه اليوم.. وما يصلح بالامس قد لا يصلح غدا، لا سيما ونحن نعيش في عصر التقدم العلمي المذهل والمتغير في كل يوم، بل في كل دقيقة، والشواهد على ذلك كثيرة وماثلة للعيان.

لهذا يجب ألا نقول نعم فحسب لتغيير مناهجنا واساليبنا وطرقنا التعليمية، بل يجب ان يكون ذلك مطلبا وطنيا واستراتيجيا، نصيح بأعلى الاصوات وفي كل المناسبات لتحقيقه، وتحقيقه عاجلا غير آجل وسريعا جدا، لأن التطور المذهل في العلوم التقنية وفي الفكر الانساني عامة، لا يسمح لنا بالتأني، بل علينا مسابقة الزمن لتحقيق ذلك ان اردنا اصلاح مسيرتنا التعليمية وتطويرها بما يناسب متطلباتنا التنموية ومكاسبنا الوطنية، لا سيما ربط التعليم بحاجة سوق العمل، لأن التعليم احد عناصر الانتاج، كما هو رأس المال والتقنية والمواد الاخرى الضرورية للانتاج والمنافسة في السوق العالمية. وكما هو معروف، فان الاستثمار في التعليم يعتبر من اهم الاستثمارات لبناء الكيان الاقتصادي المتين.

الا ان هذا لا يعني ان نغير نهجنا السعودي العربي الاسلامي الانساني. أن نغير مناهجنا التعليمية نعم، وبأعلى صوت ودائما ومن دون ابطاء. اما نهجنا فلا، وبأعلى صوت نقول لا، لأن نهجنا وثوابتنا راسخة رسوخ جبالنا الشوامخ، ومحفورة، ليس فقط في عقولنا، بل في كل ذرة منا، لن نحيد عنها، ولن يجرفنا التيار الجارف عن طريقنا الذي اختاره رب العباد لنا، اذ شرفنا بأن نكون (ابناء هذا التراب ومواطنيه) خدم بيته الحرام، وحاملي لواء خاتم رسالاته، شريعتنا السمحة هي دستورنا، وهي طريقنا للفلاح والصلاح.

فإن شذ منا شاذ، او انحرف منا منحرف، او انجرف منا منجرف في متاهة الغلو والتطرف والارهاب، فنحن منه براء، وهو ليس منا ونحن لسنا منه، نبرأ الى الله منه، وتبرأ منه شريعتنا واخلاقنا وتعاملنا وتعليمنا، لأننا امة وسط كما ارادنا رب العباد ان نكون، ولأننا ندعو الى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة.. «ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن».

نهجنا التعليمي وثوابتنا التي لا تتزعزع لن تتغير ولن تتبدل، فهي مبنية على الاخلاق الحميدة والتسامح والشهامة والنبل والحق والعدل ومساعدة الغير وتضميد جراح المجروحين، نمد ايدينا لمن يمد يده لنا سلما، ولكن إن اكرهنا الى غير ذلك، فالحكم اولا واخيرا لله رب العالمين.

نعم، نهجنا السعودي مبني على توحدنا، قادة ومواطنين، لما فيه خدمة ورفعة وعزة وقوة وطننا السعودي ونهجنا العربي مبني على الشهامة والنخوة والكرم والإباء والايثار، ونهجنا الاسلامي مبني على التسامح والعدل والاخاء والحق والاخلاق الحميدة، ونهجنا الانساني الذي نفخر ونعتز به، واضح لكل منصف ذي عقل وضوح الشمس في وضح النهار، فمساعداتنا الانسانية وأفضالنا بدون منة، ويد الخير الممتدة لجميع انحاء المعمورة تشهد بذلك.

نهجنا هذا لن يتغير ولن يتبدل. هذا ما سنرسخه في عقول واذهان ابنائنا وبناتنا، وهذا ما سنغرسه في تربيتنا لاطفالنا، وهذا ما سنعلمه لناشئتنا. هذه هي ثوابتنا الراسخة الراسية المتغلغلة فينا، وفي اعماقنا، لن نحيد عنها ولن نغيرها ولن نبدلها إلا ان يشاء الله.. «وما تشاءون إلا ان يشاء الله».

والحكم علينا ولنا هو من هذا المنطلق فقط. اما من شذ عن هذه الثوابت وهذا النهج فهو ليس منا ولسنا منه. ومن هذا المنطلق وحده نقول بالفم الملآن، وبأعلى صوت، ومن دون تردد ولا مجاملة ولا مواربة: نعم، لتغيير مناهجنا واساليبنا التعليمية في جميع مراحل التعليم، ولا والف لا لتغيير نهجنا، والله المستعان.

* مسؤول تعليم سابق في السعودية