استنتاجان من بغداد: صدام يخدع نفسه وبوش يخدع نفسه أكثر

TT

من عليائهم في واشنطن يبدو ان الرئيس بوش ومستشاريه اقنعوا انفسهم بأن غزوا يمكن ان يتحقق بيسر لأن كثيرا من العراقيين سيرقصون في الشوارع مرحبين بالقوات الاميركية.

وتبدو هذه اساءة فهم للعراق يمكن ان تكون كارثية.

لنتعرف على ما تفكر به داليا عبد الرحيم وانتظار عبد الرحيم، الشابتان اللتان التقيتهما في بغداد في محل لبيع الكتب القديمة باللغة الانجليزية. داليا تقرأ الروايات الرومانسية، بينما انتظار تفضل روايات توماس هاردي. فهل سترحبان بالقوات الاميركية القادمة الى بغداد؟

قالت داليا «سأرشقهم بالحجارة».

أما انتظار فقالت «ربما سأرميهم بالسكاكين».

وهاتان المرأتان هما، الى حد كبير، نموذجان للعراقيين الذين تحدثت اليهم. واذا ما كانت الاستراتيجية العسكرية الاميركية تفترض الحصول على دعم من العراقيين يسهل الغزو والاحتلال، فان البيت الأبيض يقترف خطأ يمكن ان تلازمنا نتائجه لسنوات.

بعد عشرات المقابلات التي أجريتها مع أناس عاديين من الموصل في الشمال حتى البصرة في الجنوب، توصلت الى استنتاجين:

1 ـ العراقيون يكرهون صدام ولا يثقون به، وخصوصا خارج المناطق السنية، وسيفرح الكثيرون منهم اذا ما رحل.

2 ـ العراقيون يكرهون حكومة الولايات المتحدة اكثر من كرههم لصدام، وهم اكثر ارتيابا بنيات اميركا من ارتيابهم بنياته.

ويحذر رحيم ماجد، المزارع من كربلاء، قائلا ان «اميركا قوة كولونيالية جديدة تريد فرض هيمنتها».

من الصعب جدا تقدير مواقف الرأي العام في دكتاتورية وحشية مثل هذه التي في العراق، حيث تجرى مرافقة الصحافيين في معظم الأحيان، من جانب موظفي الحكومة، وحيث كل من ينتقد صدام يجازف بقطع لسانه. ويتطلب الأمر قليلا من العرق، المشروب الكحولي الوطني، قبل ان يصبح التحاور مثيراً للانتباه.

غير ان العراق ليس نظاما استبداديا منغلقا (من ذلك النمط الذي صوره الكاتب الانجليزي جورج اورويل في روايته الموسومة «1984») شأن كوريا الشمالية، فالعراقيون يستمعون بصراحة وباستمرار لهيئة الاذاعة البريطانية، والاذاعة الايرانية، والاذاعة الاسرائيلية، وبشكل خاص لاذاعة اميركية جديدة ممتازة تحمل اسم «راديو ساوا»، وهي تمزج بين الموسيقى الشعبية والأخبار، وتعتبر نجاحا كبيرا في اطار تركيز ادارة بوش على الدبلوماسية العامة في الخارج. وتترك المحادثات التي يسترقها المرء مع العراقيين انطباعا قويا بأن معظم الناس يعرفون ما الذي يجري، ويشعرون بالقلق من الحرب، ويكرهون ما فعله صدام ببلدهم.

وينتشر الفساد على نحو واسع، والمعنويات بائسة، بحيث يبدو النظام العراقي برمته قريبا من الانهيار احيانا. وربما أمكن لمجموعة من جنود البحرية الاميركيين المرور عبر نقطة تفتيش عسكرية عراقية بدفع رشوة متواضعة. (غير ان حمل جميع نقود الرشوة يمكن ان يعوق حركة المارينز، ذلك ان الدينار العراقي لا قيمة له تقريبا. فعندما دفعت قائمة الفندق تعين علي ان احمل حقيبة تسوق وفيها ما يعادل 20 جنيها من الدنانير الى الطاولة الأمامية).

وبينما لم اجد سوى القليل من الناس مستعدين للقتال دفاعا عن صدام، واجهت الكثير من الاستعداد المتسم بالنزعة الوطنية للدفاع عن العراق ضد الغزاة اليانكيين. وبينما كان العراقيون العاديون وديين جدا معي، كانوا يشعرون بالسخط تجاه الولايات المتحدة بعد 11 عاما من العقوبات الاقتصادية.

سألني رئيس جامعة، وهو يلوح بقلم رصاص في يده، غاضبا «هل ترى هذا؟ لقد تطلب الأمر 15 شهرا لمجرد استيراد اقلام لطلابنا». (السبب يعود الى البيروقراطية وكذلك الى امكانية استخدام مادة الغرافيت التي تصنع منها الأقلام استخداما مزدوجا في الأسلحة).

والأنكى من ذلك ان قصف الولايات المتحدة لمشاريع معالجة المياه، وصعوبات استيراد مواد التطهير والتنقية الكيماوية مثل الكلورين (الذي يمكن ان يستخدم لتصنيع اسلحة)، وشحة الأدوية، ان ذلك ادى الى ما يزيد على الضعف في وفيات الأطفال، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.

وبالاضافة الى ذلك يعرف كل عراقي ان البصرة تعاني من ارتفاع في الاصابة بالسرطان، ولوكيميا الأطفال، وتشويه الأجنة. ويلقي بعض الاخصائيين الأجانب والعراقيين اللوم في ذلك على استخدام الأميركيين لنقابل اليورانيوم المنضب خلال حرب الخليج، ويعتقد معظم العراقيين ان هذه حقيقة ثابتة.

وقال الدكتور عامر نيسا، اخصائي التوليد في البصرة، متحدثا بطريقة منفعلة، إن «الولايات المتحدة هي التي فرضت العقوبات ضد العراق. ان كل عراقي يلقي باللوم على الولايات المتحدة مائة في المائة».

وهكذا، فاذا ما اعتقد صدام ان المواطن العراقي العادي سيفتقده، فانه يخدع نفسه. ولكن اذا ما اعتقد الرئيس بوش ان غزونا واحتلالنا سيمضيان بيسر لأن العراقيين سيرحبون بنا، فانه، هو الآخر، يخدع نفسه.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»