جواز سفر ديبلوماسي مزيف

TT

إن ظواهر الغزو، والاحتلال، وسلب الآخر حقه في سيادة كيانه، وأيضا مظاهر الاغتصاب، والافتكاك، والسبي، والقرصنة، كلها ظواهر قديمة لازمت نشأة المجتمعات الإنسانية، منذ مغادرتها إطار المجموعة، وتشكلها على نحو تتوفر فيه مقومات قيام مجتمع ما.

ومع أن مصطلح «ظاهرة» لا يصح إلا على ما هو جديد، وما هو خارج عن السياق المعتاد، فإن القدرة على التعبير تخون الجميع، فيفقدون قدرا من البلاغة كلما شاءت طبائع المجتمعات وأمزجة ساستهم، أن تعاود هذه الظواهر الظهور من جديد.

والناظر في باطن هذا التعبير التلقائي في وصف حالات قديمة ومتجددة بالظاهرة، يتفطن إلى أن هذه الظواهر، على قدمها، بقيت مرفوضة من طرف المنطق وما يتضمنه من منظومة أخلاقية، تحتوي بدورها كل الأبعاد الروحية، و الوجدانية، والإنسانية، والعقلانية.

ولا شك في أن المجتمعات البشرية، لم تأت إلى هذه الدنيا لتعيش بسلام وأمان وتنجب الصبيان والبنات، وتتزايد في الطيبة ورفعة الأخلاق، فإن ذلك سيخرج الجميع من دائرة الامتحان والمحن التي عليها يقوم مشروع الحياة، من ذلك أن الشر على علاته، هو صاحب أكبر فضل على الخير، إذ أن الأضداد تعرف بأضدادها، تماما كما يكتسب الأبيض كل جواهره الناصعة، بجوار فرو أسود.

وربما لهذه الاعتبارات دون سواها، يداهمنا الفشل كلما أعلنا مشاريع مثالية تتنافر في لبها مع طبيعة النفوس المؤلفة للمجتمعات القائمة، وكلما كان المشروع أكثر مثالية كان الفشل سريعا ووخيما. ولعل مشروع إطلاق مركبة فضائية تجوب العالم وتنشر ثقافة كونية هو آخر ما جدت به قريحة أقوياء العالم الجدد، وهو مشروع من التعقيد بحيث يستجيب لطموح أصحابه ويتناقض معهم في ذات الحين. لذلك فإن الأسئلة التي تبدو اكثر إلحاحا، هي ما حقيقة ما يسمى بالثقافة الكونية، ومن أين تبدأ حدود الدمغجة وأين تنتهي حدود الصدق؟

إن لحظة تأمل سريعة وخاطفة في فكرة الثقافة الكونية، تبين لنا أنها فكرة نواتها المكر المرقط بحبات السكر الغليظة، فالمقصود، بعد الإنصات إلى ثرثرة المتشدقين بمصطلح الثقافة الكونية، هو تلك القيم الإنسانية الثابتة، كقيم الخير والعدل والعلم والحرية، وكلها كما نرى قيم نادت بها مختلف الأديان وقامت على مبادئها معظم الثورات الإنسانية الحقيقية، وبهذا تصبح فكرة الثقافة الكونية فكرة قديمة تنظيرا وممارسة، الشيء الذي يجعلنا نتساءل، مرة أخرى، عن سر الوهج الذي لبسته هذه الفكرة خلال النصف الثاني من القرن الماضي وبخاصة خلال العقدين الأخيرين.

ولماذا تواطأ الأقوياء وأتباعهم وشاركوا في الاحتفال بولادة فكرة هي، في الحقيقة، فكرة عجوز آكل عليها الدهر وشرب؟

هكذا، يتضح لنا أن فكرة الثقافة الكونية التي لبست أحدث صيحة، وادعت حداثتها ليست في حقيقة الأمر إلا جواز سفر ديبلوماسياً يتمتع بصلاحيات استثنائية، يمارسها قادة الدول العظيمة التي استبد بها العطف والحنان والشفقة، فآثرت تصدير ثقافتها، وسمتها ثقافة كونية، وذلك كما يحلو لكل قوي أن يسمي ما يشاء بما يشاء. وكل هذا الامتداد الزمني في الحياة، وفي تجارب المجتمعات، يزيد في قناعة أن المظهر الأول والأخير لظاهرة الغزو، لا يمكن أن يكون إلا فكريا وثقافيا، ويسلك سبل الإيهام والدمغجة والأدلجة، خاصة أن الظواهر محل حديثنا، يطلق شرارتها الأولى السياسي، وكلما كان السائس يسوس دولة قوية ومسيطرة، كانت شرارته لهيبا يحرق مستهلكي الايديولوجيا الواجب استهلاكها، بمعنى أنه عندما يذيع صيت بائع الثقافة الكونية يصبح البائع الأكثر شهرة وقوة وهيمنة في سوق الثقافة، وساعتها لا أحد يناقش صلاحية ثقافته أو مكونات وخفايا إعدادها وصناعتها وتجهيزها. هذا مع العلم أننا لا ننفي عن أوروبا، وأمريكا والعالم الغربي عموما، نجاحه في بلورة ثقافة قادته إلى النجاح المتعدد والشاسع، ولكن الإشكال لا يكمن في الفكر، ولا في الثقافة، فالعقل البشري، في صورته الفردية والجمعية، برهن على امتداد تاريخه بأنه صاحب إشراقات، قادر على ملامسة الأقصى، والقبض على الأعمق بملء عبقريته وموهبته ونبوغه، بل يكمن الإشكال في صاحب الفكرة ومنتجها، والدليل هو أن معظم الأفكار الكبرى والمثالية، هي أكبر بكثير من صانعيها ومنتجيها ومبتكريها، لذلك فإن منتجي ثقافة حقوق الإنسان، وما أدراك ما حقوق الإنسان، هم أول من خرق هذه الحقوق واعتدى عليها وتجاوزها وتلاعب بها واحتفظ بها لنفسه، وعز عليه أن يعممها أو أن يعترف بنصيب كل الأفراد والمجتمعات فيها، ومثل هذا السلوك يعبر عن أنانية الإنسان القوي، التي تصبح مضاعفة وتتضاعف إلى ما لا نهاية كلما اتسع المجال الحيوي والميت لقوته. وحقيقة كهذه، تبين لكل من هب ودب، أنه من السهل الظفر بفكرة مثالية وبثقافة راقية، ولكنه يصعب وأحيانا يستحيل العثور على منتج مثالي للمثالية وللقيم الإنسانية، وإذا حصلت المعجزة فإن ذلك المنتج سيحتكر ثقافته وحقوقه لنهمه الخاص، وسيسعى إلى توظيف تلك المثالية في مصالحه وهو ما يفيد بأن مصطلحات الثقافة الكونية والسلام والحرية، كلها آليات لتحقيق الوجود السياسي للقوي، وفضاؤها هو فضاء صناعة الممكن لا أكثر ولا أقل.

ومن المفارقة أن يتم الإعلان عن ثقافة كونية لا فرق فيها بين الأجناس والأعراف والأديان، ولا تفاضلية بين الثقافات. والحال أن الممارسة الواقعية التي نشاهدها في ملعب الأحداث الدولية، وآخرها التهديد بضرب العراق، والابداع في استراتيجيات التهديد، لا تعكسان الادعاءات المقدمة من عالم يسمي نفسه بعالم الخير والحرية والديمقراطية. في الحقيقة إن هؤلاء الكبار، يمتلكون ثقافة استثنائية ومتقدمة جدا، ولهم في الجراب آلاف القيم، ولكن ثقافتهم وقيمهم ممنوعة من التصدير وممنوعة من الكونية، لأنهم بكل بساطة لم يتخلصوا من عقدة أنهم ذات الكون، وأنهم جوهر العالم وأطرافه والدليل هو أنهم ما أن يجرهم الخطاب السياسي إلى خارج جغرافيتهم، حتى تصبح للحرية معنى آخر، وللدفاع عن النفس تسمية أخرى، وللإنسان هيئة أخرى.

أما إذا تأملنا حقيقة ما يسمى بالثقافة الكونية فإننا نكتشف بأنه لا وجود لها والمجتمعات التي ادعتها غير قادرة على تمثلها أو تجسيدها كما تنص معانيها، وحجتنا في ذلك أن العالم الغربي قد فشل في التخلص من عيوبه، وهو ما يعني أنه لم يهضم جيدا القيم التي ينادي بها أو أن تصوره لهذه القيم الكونية هو تصور قسري وضيق بالإضافة إلى أنه يصعب على غير المالك للشيء أن يعطي ما يفتقده، ولا نعتقد أن عوالم تعج بالخيبات وبالنقائص وبالشروخ المتجسدة في ظواهر العنصرية والمافيا وتعنيف النساء والشذوذ الجنسي واللامبالاة، تستطيع أن تكون واجهة العالم وإن مثلت اليوم واجهة العالم و حارسته.

ويبدو أن البلد الأكثر قدرة على إنتاج ثقافة كونية هو فقط البلد القادر على تطبيق ما يؤمن به وما يعلن عنه داخل جغرافيته وفي أول متر يتعدى حدوده.