تعددت الأشكال والذات واحدة...

TT

يمكن اعتبار يوم الثاني والعشرين من شهر شباط / فبراير من عام 1998 يوماً تاريخياً بالنسبة للاسلام السياسي، أو الاسلام الحزبي، أو الاسلام المؤدلج، وعلى مستوى العالم أجمع. ففي ذلك اليوم قام أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، وأيمن الظواهري، أمير جماعة الجهاد المصرية، ورفاعي أحمد طه، أحد قادة الجماعة الاسلامية بمصر، ومنير حمزة، سكرتير جمعية علماء باكستان، وفضل الرحمن خليل، أمير حركة الأنصار بباكستان، والشيخ عبد السلام محمد خان، أمير حركة الجهاد ببنغلاديش، قام هؤلاء بالتوقيع على بيان حمل توقيع «الجبهة الاسلامية لجهاد اليهود والصليبيين». هذا البيان يمكن اعتباره حداً فاصلاً في العمل السياسي لتنظيمات العنف الاسلامي. فهذا البيان يشكل نسفاً لكل الجسور التي ربطت، والتي كان يمكن أن تربط، ما بين هذه التنظيمات وما بين العالم من حولها. ومن ضمن ما جاء في البيان: «الحمد لله منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب والقائل في محكم كتابه، فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله القائل بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده وجُعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري.. ونحن بناء على ذلك وامتثالاً لأمر الله نفتي جميع المسلمين بالحكم التالي: ان حكم قتل الأمريكان وحلفائهم مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه، وذلك حتى يتحرر المسجد الأقصى والمسجد الحرام من قبضتهم، وحتى تخرج جيوشهم من كل أرض الاسلام مثلولة الحد، كسيرة الجناح، عاجزة عن تهديد أي مسلم.. اننا باذن الله ندعو كل مسلم يؤمن بالله ويرغب في ثوابه، الى امتثال أمر الله بقتل الأمريكان ونهب أموالهم في أي مكان وجدهم فيه، وفي كل وقت أمكنه ذلك، كما ندعو علماء المسلمين وقادتهم وشبابهم وجنودهم الى شن الغارة على جنود الأمريكان، ومن تحالف معهم من أعوان الشيطان».

كان هذا البيان بمثابة اعلان حرب على أميركا، وحلفائها بشكل خاص، وفي ذات الوقت بمثابة اعلان عن موقف سياسي وايديولوجي حدي يفصل بشكل نهائي بين معسكرين هما بالضرورة متناحران. وقد أكد بن لادن المعنى الأخير في بيانه الشهير بعد أحداث سبتمبر حين قال: «أقول ان هذه الأحداث قد قسمت العالم بأسره الى فسطاطين، فسطاط الايمان الذي لا نفاق فيه، وفسطاط الكفر أعاذنا الله واياكم منه. فينبغي على كل مسلم أن يهب لنصرة دينه وقد هبت رياح الايمان وهبت رياح التغيير لازالة الباطل من جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم». والملاحظ في كل بيانات القاعدة وحلفائها أن هنالك ربطاً ضرورياً بين أميركا وجزيرة العرب، أو هي السعودية تحديداً، وتركيزاً عليها دون بقية بلاد العرب والمسلمين الأخرى، مما يعني أن هناك خلفية معينة لا تظهر في الصورة التي ترسمها البيانات، جعلت بن لادن يتخذ هذا الموقف الحدي من أميركا والسعودية، قد يجد تفسيراً له في خلفيات «الجهاد» الأفغاني ضد السوفيت، وما تلاه من نتائج، وخاصة في ما يتعلق بالتحالف القديم بين تنظيمات الجهاد وأميركا من ناحية، والدعم الذي قدمته السعودية وباكستان لهذا التحالف من ناحية أخرى. ليست القضية هنا متعلقة بوجود «المشركين» في جزيرة العرب، كما يقول الخطاب الايديولوجي للجماعة، مستخدماً نصوصاً مقدسة معزولة عن سياقها الديني والتاريخي، فقد كان هؤلاء موجودين قبل البيان، وحين كان «المجاهدون» أنفسهم متحالفين مع ذات الموصومين بالشرك هذه المرة. فالموقف ليس موقفاً مبدئياً في هذه الحالة، بقدر ما هو استخدام ايديولوجي لنصوص مقدسة متعددة التفسيرات والتأويلات، بالنظر اليها معرفياً لا ايديولوجياً، وذلك لغاية في نفس يعقوب قضاها، ولكن هذا موضوع آخر.

المراد قوله هنا أنه ومنذ انتهاء حركة المقاومة الأفغانية للسوفيت، اتجه المشاركون في هذه المقاومة من غير الأفغان الى العمل التنظيمي المستقل، ولكن بنظرة أكثر شمولاً وعالمية هذه المرة. وتنظيم القاعدة الذي أسسه أسامة بن لادن خلال السنتين اللتين أعقبتا حرب الخليج الثانية، يعتبر أهم هذه التنظيمات التي اندمجت في القاعدة فعلياً، بعد تأسيس الجبهة الاسلامية لجهاد اليهود والصليبيين. والغريب في الأمر، أنه من الملاحظ أنه لا وجود ملحوظاً للأفغان أنفسهم، وهم مادة الجهاد السابق، في القاعدة أو التنظيمات الأخرى. قد يكونون أعضاء في طالبان ومنظمات أخرى، ولكنهم يبقون جزءاً من الصراع على السلطة في أفغانستان نفسها، وليسوا من ذوي «التوجه العالمي» أو الأممي، كما في حال القاعدة ومن ينحو نحوها. ليس المراد هنا حقيقة تأريخاً للقاعدة ومسارها بقدر ما أن المراد هو المقارنة، والبحث عن أوجه الشبه بين القاعدة وتلك التنظيمات والجماعات السرية، الدينية منها وغير الدينية، التي ظهرت في تاريخنا وتاريخ غيرنا، مثل حركة ابن الصباح، كممثل للحركات الدينية، والبلاشفة، بصفتهم ممثلين للحركات غير الدينية، والا فان الأمثلة كثيرة. بنظرة سريعة، يمكن أن نحدد العوامل المشتركة بين هذه التنظيمات في الأمور التالية: طبيعة التنظيم، الايديولوجيا، ومكانة الزعيم.

فالتنظيم في مثل هذه الجماعات ليس كمثل التنظيم في أي منظمة سياسية أخرى، سرية كانت أو علنية. فمن ناحية هو تنظيم شبه مغلق، أو هو مغلق فعلاً، لا يمكن الدخول فيه الا لمن كان هو والثقة صنوان لا يفترقان، وذاك لا يتم الا بعد أن يكون قد «رُبي» تربية معينة، فكرية وتنظيمية، بعكس معظم التنظيمات، حتى السري منها، التي يكفي الاقتناع بالفكرة سبباً في الانخراط مبدئياً. فمثل هذا النوع من التنظيمات ليس ساعياً الى السلطة السياسية فقط، ولكنه يحاول أن يحدث انقلاباً اجتماعياً وثقافياً من نوع خاص، ان صح التعبير، وهذا لا يتأتى الا من خلال: «طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الاطناب في أرجاء الأرض جميعا. تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة»، وذلك كما يقول سيد قطب في المعالم. انه ذات الشيء الذي قال به لينين أيضاً في «ما العمل؟»، وقال به هتلر في «كفاحي»، وقال به عفلق في «في سبيل البعث»، وقال به ابن الصباح في فصوله الأربعة، وغيرهم: اتفاق في أسس التنظيم، واختلاف في الايديولوجيا. ولذلك، فان مثل هذه الجماعات غالباً ما يكون تركيزها على الغض من الشباب، وذلك لأنه من الأسهل اعادة تشكيل عقول هؤلاء وفق الأهداف التي يحددها الزعيم، أو تحددها القيادة. بل وكلما كانت «اعادة التربية» في سن أبكر، كان ذلك أفضل. ومن هنا فان مثل هذه الجماعات لا تبحث عن أعضائها الممكنين في الشوارع أو بين مختلف فئات وطبقات الناس، بل يكون التركيز في تلك المؤسسات التي تحتوي على الغض من الفتيان. فقد تكون دعوة التنظيم عامة من خلال البيانات والأعمال، ولكن الانخراط فيه ليس بمجرد الاقتناع.

الدعوة العامة تهدف الى حشد نوع من التأييد العام المهيأ لتقبل التنظيم بصفته «النخبة» التي سوف «تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا»، أو ما شابه ذلك من غايات مطروحة. هذا ما كان يفعله الحشاشون في تاريخنا، أو ما كان يهدف اليه البلاشفة في نشراتهم، وهو ذاته ما تقوم به تنظيمات «الجهاد الاسلامي» المعاصرة. فالعامة بالنسبة لمثل هذه التنظيمات ليسوا الا وسيلة لغاية، أما الغاية ذاتها، بكل أبعادها، فلا يعرفها الا النخبة من قادة الجماعة. ومن هنا نتبين صفة أخرى لمثل هذه التنظيمات، ألا وهي النخبوية الحادة. فالتنظيم بذاته عبارة عن نخبة أو طليعة، وفق تعبير سيد قطب ولينين معاً، بالنسبة للعامة. والقيادة هي نخبة وطليعة مستقلة داخل التنظيم نفسه. وفي نخبة النخبة ذاتها، يقف الزعيم بصفته «الملك الفيلسوف»، العالم بالأسرار أكثر من غيره. وسواء اتخذ الزعيم صفة «ملك فيلسوف» وفق التنظيم الافلاطوني لجمهوريته المثالية، أو صفة «الامام»، أو صفة «السكرتير العام»، أو«الأمين العام» أو «الفوهرر»، أو «الدوتشي»، أو «المرشد»، فان الوظيفة واحدة، وبنية العقل الموجه واحدة.

والبنية الايديولوجية لهذه الجماعات غالباً، بل دائماً ما تكون حدية النظرة والموقف، فلا وجود للوسط هنا، فاما خير واما شر، ولا تداخل بين الحدين الا في حالة الصراع. والصراع بين الخير والشر دائم، حتى ينتصر الخير في النهاية، وهو ما يذكرنا حقيقة بالفلسفات المانوية والزرادشتية والمسيحية الأوغسطينية، من صراع بين النور والظلام، اله الخير واله الشر، أو مدينة الله ومدينة الشيطان في حالة أوغسطين. بايجاز العبارة، تقوم البنية الايديولوجية لهذه الجماعات على ثنائية حادة بين طرفين متصارعين لا يمكن أن يلتقيا. والغريب في الأمر أنه في عصرنا الراهن، عصر العولمة والتداخل البشريين، أصبحت هذه البنية الايديولوجية مهيمنة على كثير من العقول، حتى تلك التي تبدو وكأنها أبعد ما تكون عن هذه الحدية. فمقولات هنتينغتون عن صراع الحضارات، وتصنيف بوش العالم الى محوري شر وخير، كلها تدخل في هذا الاطار، ولكن هذا موضوع آخر أيضاً. ولكن اذا كان هنالك اتفاق على انقسام العالم الى خير وشر، فان الاختلاف قائم ايديولوجياً حول ما هو الخير وما هو الشر. فبالنسبة للينين و«رفاقه»، فان الخير يكمن في الشيوعية، والشر هو الرأسمالية. وبالنسبة لابن الصباح فان الخير هو ما يقول به، والشر هو فيما عداه. وبالنسبة للقاعدة وبن لادن، فان الخير يكمن في فسطاط الايمان، والشر يكمن في فسطاط الكفر، وهو من يحدد أين تكمن الحدود بين الفسطاطين، كما كان ابن الصباح يفعل بالنسبة لمريديه، ولينين بالنسبة لرفاقه، وزعماء آخرون من هذا النمط بالنسبة لأتباعهم.

فالزعيم، في مثل هذه الجماعات والتنظيمات، هو المالك الأوحد للحقيقة المطلقة في عين أصحابه ومريديه. قد يكون له مستشارون أو أعوان من نخبة النخبة داخل التنظيم، ولكنه يبقى هو صاحب كلمة الحق النهائية، ولا نقول الرأي، فالرأي يحتمل الصواب والخطأ، أما كلمة الزعيم فهي الحق المطلق حين تصدر. انه شيء أشبه ما يكون بموقع البابا في التنظيم الاكليروسي الكاثوليكي الارثوذكسي، حيث تُمارس «عصمة الامام» أو الزعيم عملياً، وإن أُنكرت نظرياً. وسواء كانت هذه التنظيمات والجماعات دينية أو منكرة للدين جملة وتفصيلا، فانها تشترك في قدسية الزعيم، وتلك الهالة الخارقة غير المرئية التي تحيط به وتقف خلفه. ومن العجائب في هذا الموضوع أن العامة من الفلاحين كانوا يتبركون بقبر لينين وجسده المحنط في الساحة الحمراء في موسكو، رغم أن لينين نفسه كان منكراً للدين والاله. القضية هنا ليست قضية دين أو لا دين، بقدر ما هي جزء من بنية عقل معين، تجد في القداسة، أو اضافة القداسة على هذا الشيء أو ذاك، الوسيلة الوحيدة للتأثير على العقل الجمعي، حتى وان أنكرت القداسة ذاتها، أو كانت القداسة بعيدة كل البعد عن هذا الشيء أو ذاك.