في أستراليا.. مع هموم الحرب والسلم

TT

خلال سنة وبضعة ايام اتيحت لي زيارة استراليا مرتين. المرة الاولى كنت فيها بمدينة ملبورن عندما وقعت هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 الكارثية، والثانية خلال الشهر الفائت لمدينة سيدني، وكان الحوار حيثما توجهت يتعرج ويتلوى ليصل في النهاية الى السؤال «متى في رأيك ستوجه الولايات المتحدة ضربتها الى العراق؟». فحتى ابان النزهات السياحية او الدردشات الخفيفة.. كان كابوس العمل العسكري الموعود في الشرق الاوسط قادرا على التسلل عبر شقوق ضيقة، مثل الاوضاع الاقتصادية وجمال الطبيعة ونظافة البيئة، الخ.

وطبعا عندما يكون الطرف الآخر في الحوار من ثقافة اخرى ومنظور مصلحي آخر فإن المناقشات سرعان ما تكتسب ابعادا مختلفة جدا عن الابعاد المألوفة في الخطاب السياسي العربي والردود التي يستنهضها، ومع انني من «المهاجرين» الى بلد شهدت ثقافته الاجتماعية خلال السنوات الـ 20 الماضية ثورة غير مسبوقة، واخذ يتعايش ـ مترددا احيانا ومتحمسا احيانا اخرى ـ مع تعددية «عولمية» مذهلة، استطيع ان ازعم ان بريطانيا لا تندرج تماما في قائمة دول «المهجر» التقليدية في «العالم الجديد»، اي الولايات المتحدة وكندا ودول اميركا اللاتينية واستراليا ونيوزيلندا.

فأستراليا، لمن زارها وعرفها، بلاد شابة كالولايات المتحدة، لكنها لم تتحول بعد مثلها الى امبراطورية. ثم هي بلاد ما زال العلم البريطاني يحتل جزءا من علمها الوطني وملكة بريطانيا ـ ولو بروتوكوليا ـ رأس السلطة فيها، وما زالت اسماء فيكتوريا وجورج واوكسفورد وبت تبرز في خرائط مدنها وقراها، وما زال المتحدرون من اصول بريطانية يشكلون اغلبية كبيرة من سكانها بكل ما تحتويه جعباتهم من تراث وتقاليد وعادات.. لكنها رغم كل ذلك بلاد كانت كيانا مستعمَراً (بفتح الميم الثانية) لا مستعمِراً (بكسرها)، وبالتالي لم تتولد عند اهلها غطرسة «امبرياليي» الماضي والحاضر.

استراليو اليوم حيثما كانوا، عابثين على شاطئ بونداي في سيدني والشاطئ الذهبي في ولاية كوينز لاند او مغامرين في قلب صحارى الباطن وصخوره، لاهثين وراء الدولار في مباني الحي التجاري والمالي في ملبورن او مزارعين في الارياف المنتشرة في الاطار الاخضر لهذه «الجزيرة ـ القارة»، لا يتضايقون كثيرا من ماضي هجرتهم، حتى لو زل لسانك ولفظت امامهم كلمة «بوم» POHM المأخوذة من الاحرف الاولى لكلمات «سجين صاحب/ صاحبة الجلالة»، فأستراليا كانت بالفعل ولفترات طويلة منفى وسجنا كبيرا معزولا عن العالم تقريبا، غير ان هذا السجن تحول الى فردوس ارضي، والمتحدرون من سجناء اصحاب الجلالة صاروا شعبا نشيطا وطيبا وطموحا يعيش حياته بلا عقد او احقاد على احد.

أكيد هناك استثناءات، فكحال اي بلاد غنية جذابة هناك امواج متلاطمة من طالبي الهجرة من دول ومناطق من العالم لا علاقة لها بأوروبا واديان اوروبا ولون الاوروبيين الابيض، وبالتالي اثارت موجات الهجرة التي اخذت تغير في شكل النسيج الاثني والثقافي للبلاد رد فعل عنصريا، الا ان هؤلاء العنصريين ظلوا ظاهرة ضئيلة، ولعلهم برزوا على الساحة في الاساس ابان فترة الحكم الطويل نسبيا لحزب العمال تحت زعامة بوب هوك ثم بول كيتينغ، ثم اخذ حجمهم يضمر بعد استعادة حزب الاحرار (المحافظ اليميني) الحكم.

ولكن مع ان استراليا اليوم تحت حكم اليمين المحافظ وسياسات رئيس وزرائها جون هوارد، حريصة على ارضاء الولايات المتحدة، فإنها تعرف موقعها الجغرافي، وطبيعتها التركيبية الحضارية. ولذا فهي لا تجد نفسها صاحبة مشروع هيمنة عالمي، وبالتالي لم تتحمس حكومة الاحرار لخوض حرب احتلال في الشرق الاوسط، كما تحمست الحكومة البريطانية.. المفترض انها حكومة عمالية ـ اي يسارية ـ بعيدة آيديولوجياً عن اليمين الاصولي المحافظ الحاكم حاليا في الولايات المتحدة.

لم ألمس من خلال مناقشاتي في استراليا او من خلال قراءاتي لصحفها ذلك التوق ـ او لنسمه الطموح الريادي ـ لتغيير العالم.

ابداً، بل بعد عودتي الى لندن تابعت برنامجا اذاعيا عن الاسلام السياسي في جنوب شرق آسيا، واعجبني كلام استاذ في جامعة ملبورن يتحدث فيه عن اهمية اصغاء واشنطن لآراء استراليا في موضوع الاسلام في جنوب شرق آسيا لأن لبلاده معرفة وثيقة بهذا الوضع ـ عبر ملف تيمور الشرقية ـ ويهمها كثيرا الا تتصرف واشنطن مع كل الجماعات والتنظيمات الاسلامية في اندونيسيا بالتحديد، ودول الجوار الاسلامية الاخرى بمعيار عدائي تبسيطي مغلوط.

وتابع الاكاديمي الاسترالي في حديثه الرصين ان دولة ضخمة كإندونيسيا يدين بالاسلام نحو 90% من سكانها لا يمكن الا ان تكون اسلامية الثقافة. وحذر من ان تشطح الحملة الاميركية الراهنة ضد «الاصولية الاسلامية المتشددة» الى استفزاز عموم مسلمي جنوب شرق آسيا واستعدائهم، مشددا على ان الحرب ضد التشدد الاسلامي «يجب ان يربحها الاسلاميون المعتدلون لا الولايات المتحدة داخل العالم الاسلامي». وتابع ان احتفاظ الاسلاميين المعتدلين «الذين ما زالوا يشكلون الغالبية العظمى بين المسلمين» بمصداقيتهم السياسية سيحقق الغايات النبيلة للحملة ضد التشدد والارهاب، في حين ان اضعاف مصداقية البديل الاسلامي المعتدل سيعقد الامور ويدفعها نحو الهاوية.

كلام هذا الاكاديمي الاسترالي شبيه جدا بمضمون مقالة المعلق الاميركي توماس فريدمان (في اول اكتوبر/ تشرين الاول الجاري) في الـ «نيويورك تايمز» تحت عنوان «لطفوا لهجتكم قليلا».

فريدمان اصاب تماما هذه المرة بتوجيه نصيحته الى «صقور» الادارة الاميركية، مع انها من حيث التوقيت ربما جاءت متأخرة بعض الشيء، وأحسب ان فريدمان كغيره من المثقفين الاميركيين الذين سمح لهم حسن طالعهم ان يزوروا دول العالم ويحتكوا بشعوبها وثقافاتها ومفاهيمها متضايق هذه الايام من لهجة الفرض والاملاء الاستعلائي الصادرة عن «صقور» واشنطن.

ولا شك ان فريدمان وغير فريدمان من عقلاء اميركا ومفكريها الشرفاء لا ينظرون بارتياح الى اسلوب تعامل امثال ريتشارد بيرل مع مستشار المانيا، وما يقوله بعض صغار البنتاغون والخارجية الاميركية والاعلام اليميني في واشنطن عن الرئيس الفرنسي و«شراء» اذعان روسيا والصين، والنظرة الاستهزائية التهميشية التي ينظرونها الى الامم المتحدة.

ان اخطر ما في الموقفين الاميركي والبريطاني الحاليين بالنسبة لموضوع العراق ليس ابدا العداء للرئيس العراقي صدام حسين والاصرار على اطاحته، بل هو المضي قدما بهذا المشروع «كمشروع خاص» ينتهي بترتيبات اقليمية (احتلالات وتقسيم وتقاسم) خاصة.. على انقاض روح الامم المتحدة الفكرة القائمة وراء وجودها.

ثم هناك خطر توجيه رسالة كراهية واحتقار لأي اسلوب تفكير يخالف هذه النزعة التفردية القائمة اصلا على مصلحة منفردة بالنسبة لواشنطن، وذيلية انتهازية بالنسبة للندن، حيث على رأس اولويات رئيس الحكومة البريطانية توني بلير، ان يظل هو «رجل واشنطن» داخل بريطانيا واوروبا، ومن هذا المنطلق فهو حريص على الا تتجه واشنطن للمراهنة على حزب المحافظين كحليف بديل، وعلى الا تأخذ المانيا او فرنسا او اي دولة اوروبية اخرى دور بريطانيا التقليدي في «العلاقة المميزة» عبر الاطلسي.