بوش يسعى إلى فرض نظام عالمي جديد

TT

ينشغل الكبار والصغار بموضوع العراق، وتتصارع الدول فيما بينها حوله، حتى اصبحت كلمة العراق مثل الكابوس ولكنه كابوس يؤرق الدول كما يؤرق الاشخاص.

هل هو العراق حقا الذي يحدث كل هذا التأثير حوله، ام ان الصدفة التاريخية تشاء ان يكون العراق مجرد عنوان لموضوع أكبر منه بكثير؟ اعتقد ان الصدفة التاريخية هي التي وضعت العراق في دائرة الهدف، انما من اجل تحقيق غاية اخرى اكبر من العراق بكثير.

مساء يوم الخميس الثالث من تشرين الاول (اكتوبر) 2002، انتهت جلسة تداول مغلقة لدول مجلس الأمن، بينما كان الرئيس جورج بوش منشغلا بادارة مناقشات صعبة مع الكونغرس الاميركي. وهو خرج من اجتماعات الكونغرس ليعلق على مناقشات الهيئة القيادية في الأمم المتحدة ويقول «اذا لم تستطع الأمم المتحدة ان تفعل شيئا لنزع اسلحة العراق، فلتتنح جانبا»، وليقول ايضا: ان عجز الامم المتحدة يحولها الى «عصبة أمم». وبهذه الكلمات استعمل بوش، الكلمات الحقيقية التي تعبر عن المعركة الحقيقية الدائرة، معركة حول الأمم المتحدة، حول الهيئة القيادية للعالم التي عليها ان تتنحى جانبا، اما العراق فيشاء له قدره ان يكون اداة التوضيح ليس غير.

ان الرئيس جورج بوش الابن يريد تغيير النظام العالمي، وطريقه الى ذلك الغاء مؤسسة الامم المتحدة واستبدال مؤسسة دولية جديدة بها تسيطر عليها الولايات المتحدة الاميركية كتعبير عن واقع الحال في العالم، وكتعبير عن توازن القوى الجديد الذي بدأ يتكون منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990. لم تعد الولايات المتحدة تقبل ان يستمر النظام العالمي الراهن، الذي يساوي في القوة والنفوذ بين خمس دول تتقاسم حق «الفيتو» في مجلس الامن، وهو يريد نظاما عالميا جديدا تمارس فيه الولايات المتحدة وحدها حق النقض «الفيتو» باعتبارها القوة العظمى الوحيدة المسيطرة والمهيمنة في العالم، والتي تستطيع وحدها الخروج بقوتها العسكرية الى اي مكان.

لقد اعلن الرئيس جورج بوش الاب عام 1991، على دوي سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، وعلى دوي الحرب التي انتهت لتوها في العراق والكويت، قيام النظام العالمي الجديد. رسم جورج بوش الأب اسس ومبادئ هذا النظام، الآن يأتي جورج بوش الابن في العام 2002 ليستخلص ميزان القوة من هذا النظام، وليعلن على الملأ ان العالم قد تغير، ويجب بالتالي ان يقبل الجميع بذلك.

لقد تغير النظام العالمي في القرن العشرين مرتين، وها نحن نشهد في مطلع القرن الواحد والعشرين محاولة تغيير النظام العالمي للمرة الثالثة، فهل ستنجح محاولة لي ذراع التاريخ هذه؟

لقد جرت عملية التغيير الاولى عقب الحرب العالمية الاولى، ونشأ نظام عالمي جديد عبر عن نفسه في تشكيل مؤسسة «عصبة الأمم» (التي اشار اليها بوش في حديثه الغاضب). كانت القوى المنهزمة في تلك الحرب هي المانيا والدولة العثمانية (تركيا)، وكانت القوى الصاعدة هي بريطانيا وفرنسا، اما الولايات المتحدة الاميركية فقد كانت متوارية في خلفية المسرح، لم تكن قد خرجت بعد الى العالم، ولم تكن ترغب في هذا الخروج. عصبة الامم هي التي انشأت نظام «الانتداب» لتطبقه على الاقاليم التي انتزعت من المانيا وتركيا عقب الحرب، ونالت الدول العربية الناشئة نصيبها من هذا «الانتداب» في فلسطين والاردن والعراق ومصر وامارات الخليج والسودان وليبيا حيث سيطرت بريطانيا، وفي لبنان وسوريا وتونس والمغرب والجزائر حيث سيطرت فرنسا. كان عنوان الانتداب هو تأهيل الدول اداريا لتنال، فيما بعد، استقلالها، وتكرم علينا النظام العالمي الاول هذا حين وضع الدول العربية في المجموعة الاولى المهيأة لنيل الاستقلال اسرع من غيرها، واحتاج هذا التأهيل الى ما يزيد عن ربع قرن من الزمن، شهدنا فيه تجزئة المنطقة العربية، واتساع الهجرة اليهودية الى فلسطين، ونيل بعض الدول العربية لاستقلالها.

اعطت الولايات المتحدة الى «عصبة الأمم» زادا من الفكر السياسي، تمثل في مبادئ ويلسون، اي المبادئ الاربعة عشر التي اعلنها وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة في فترة الحرب العالمية الاولى، وكانت تتضمن فكرة انشاء «عصبة الأمم»، ثم تم دمج «عهد عصبة الأمم» ضمن معاهدة صلح فرساي، ولم تنضم الولايات المتحدة الاميركية الى عصبة الأمم التي استقر مركزها في جنيف، لأنها لم تصدق على معاهدة فرساي، بسبب رفض مجلس الشيوخ الاميركي المصادقة على تلك المعاهدة. آنذاك لم تكن الولايات المتحدة الاميركية قد اصبحت قوة امبريالية عالمية، وكانت تبشر باستقلال الشعوب، وتطلع اليها الكثيرون، والعرب منهم، من اجل التخلص من الاستعمار البريطاني او الاستعمار الفرنسي.

ثم دار الزمن دورته، ووقعت الحرب العالمية الثانية، وبرزت في ساحة الصراع قوى سياسية جديدة، برزت الولايات المتحدة الاميركية وبرز الاتحاد السوفياتي وبرزت الصين وبرزت قبلهم بريطانيا، وهذه الدول هي التي ذكرت لأول مرة بصفة رسمية في 30/10/1943، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، الحاجة الى منظمة دولية جديدة، تعبر عن النظام الدولي الجديد الذي سيولد من احشاء الحرب، وكانت هذه المنظمة هي «الأمم المتحدة»، وحين انعقد مؤتمر يالطا في شباط (فبراير) 1945 لتوزيع مناطق النفوذ بين الدول المنتصرة على المانيا الهتلرية، تم الاتفاق على نظام حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن، وتم حصره بين الدول الخمس المنتصرة الدائمة العضوية، وسجل النظام العالمي الجديد، الى جانب بروز مؤسسة «الأمم المتحدة» المعبرة عنه، خروج الولايات المتحدة من عزلتها ودخولها حلبة السياسة الدولية، وقيام نظام القطبين (الرأسمالي والشيوعي) الذي سيهيمن على سياسة العالم، ونالت الدول العربية مرة ثانية نصيبها من قيام هذا النظام العالمي الجديد، فانتقلت السيطرة من بريطانيا وفرنسا الى الولايات المتحدة، وورثت واشنطن مراكز النفوذ التي كانت لبريطانيا في مناطق النفط، من خلال استراتيجية سياسية اطلق عليها في مطلع الخمسينات «استراتيجية شرقي قناة السويس»، وتم الاعتراف بقيام دولة اسرائيل، وتأثرت سياسات المنطقة العربية بهيمنة القطبين العالميين الجديدين، وتوزعت الولاءات بينهما، وافرزت هذه الولاءات صراعاتها.

الآن... يعيش العالم منذ عقد، نتائج انتهاء الحرب الباردة التي دشنت هزيمة الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة قوة عسكرية مهيمنة، وتشاء الصدف التاريخية ان تترافق هذه التغيرات مع احتلال العراق للكويت، حيث استنفرت الولايات المتحدة نفسها للدفاع عن سيطرتها على المصالح النفطية، ونجحت في تشكيل تحالف عالمي بقيادتها لخوض حرب ضد العراق وفرض الحصار عليه. وما يحاوله الرئيس جورج بوش الابن الآن، هو استخلاص نتائج من هذا الواقع القائم، تدعو الى رسم نظام عالمي جديد للمرة الثالثة، نظام تكون له مؤسسته العالمية الجديدة، وميثاقه العالمي الجديد وقيادته الاميركية الجديدة والوحيدة، وهو حين يواجه الآن معارضة من شركائه في مجلس الأمن، فإن هذه المعارضة تنبع من سببين:

السبب الاول: ان الاطراف الثلاثة المعارضة (فرنسا، روسيا والصين)، تدافع عن نفوذها السياسي، وعن دورها المعترف به في تقرير السياسة العالمية، وهي تضغط لكي تبقى شريكة في اتخاذ القرار وفي وسائل تنفيذه وفي جني المكاسب بعد التنفيذ.

السبب الثاني: ان كل نظام عالمي جديد تم اقراره في السابق، تبلور بعد مناقشات واسعة بين الدول، وبعد جمع حصيلة تلك المناقشات في ميثاق جديد يوضح المبادئ والاسس والحدود والمصالح المتاحة لكل طرف، بينما يقود الرئيس جورج بوش الابن محاولته لتكريس نظام دولي جديد من دون أية مناقشة مع الاطراف الاخرى، ومن دون اي تفاهم معها حول المبادئ والأسس الجديدة التي ستحكم العالم. انه يريد ان يقود شركاءه الحاليين في العالم وفي مجلس الامن، الى النتيجة التي تقر وتعترف بقيادة الولايات المتحدة، ومن دون اجراء اي نقاش تمهيدي يوضح دور كل طرف، وكأنه يحاول الغاء الاطراف كلها، وتحويلها الى قوى تابعة من دون ان تكون قوى شريكة. انه يفهم النظام العالمي الجديد على انه نظام امبراطوري، يفترض من الآخرين الطاعة، والطاعة فقط، اما العراق فيشاء له حظه ان يكتوي بنار هذه المعركة من دون ان تكون له يد فاعلة فيها، وسيكون ذلك مقدمة لما سيجنيه العرب من ويلات على يد هذا النظام العالمي الجديد اذا قام.