رؤية تؤدي للحرب

TT

في الوقت الذي تقترب فيه الولايات المتحدة من استخدام القوة لتحقيق «تغيير النظام» في العراق، فإن السؤال الذي يجب طرحه في هذا المجال: هل يعرف الاميركيون ما يكفي عن صدام حسين؟

وبالرغم من انه يبدو انه حل محل اسامة بن لادن في قائمة «اكثر الاشخاص كراهية» بالنسبة للأميركيين، فإن الدكتاتور العراقي لغز غامض بالنسبة لمعظم الاميركيين.

فالبعض يصفه بأنه شخص مصاب بجنوب العظمة على غرار ابطال القصص الكرتونية، بينما حاول البعض الآخر البحث في طفولته كصبي يتيم لشرح سياسته من منطلقات شبه فرويدية. وربما الطريقة الابسط هي محاولة دراسة رؤيته السياسية في اطار منطقه ومن منطلق كلماته وافعاله.

ما هي رؤية صدام حسين؟ هي رؤية قائمة على منظور منحرف للقومية كما تطبق في العراق. فتصوره الاساسي هو وجود امة عربية واحدة تمتد من الاطلنطي الى المحيط الهندي. وفي اوقات متعددة يختار التاريخ، الذي يحدد قدر الامم، جزءا من هذه الامة الوهمية لقيادتها. وكما تقف الامور اليوم فالجزء العراقي من الامة العربية هو الذي اختاره التاريخ لتولي القيادة.

وهنا واجهت صدام اول مشاكله الكبيرة. فالبرغم من شعور كل سكان العراق بأنهم عراقيون، فلا يعتبر جميعهم انفسهم عربا. وقد تحدث صدام منذ فترة مبكرة تعود الى عام 1969عن تصميمه لتقوية عروبة العراق.

ولم تكن هذه مهمة سهلة.

فمن الناحية التاريخية جزء بسيط من تاريخ الارض التي يطلق عليها العراق، ويعود الى 7 آلاف سنة يمكن وصفه بالعروبة. أما الباقي فسومري وآشوري واكادي وبابلي وايلامتيه واوراتانيه وفارسي ومغولي وبيزنطي ومملوكي وعثماني.

وتعكس طريقة حياة العراقيين وعمارتهم وموسيقاهم ومطبخهم وعادتهم اليومية هذا التنوع الغني.

وحتى كلمة العراق ذاته كلمة فارسية (تعني الاراضي الواطئة)، وكلمة بغداد تعني بالفارسية هبة الله. أما كلمة دجلة والفرات فهي ذات اصول يونانية، فالفرات تعني النشوة ودجلة تعني النمر.

كما يوجد في العراق 11 لغة حية، بعضها مثل الايلاميتيه اقدم مرتين من العربية.

و25% من ابناء العراق من الاكراد، يتكلمون لغتين مختلفتين: سوراني وبهديناني، ويتبعون نوعية متعددة من الاديان من بينها الاسلام والزرادشتية والاديان الباطنية.

وتوجد ايضا مجموعات من الكدانيين الصابئين ومعظمهم من المسيحيين، والتركمان وكلهم من المسلمين.

واللغة العربية هي اللغة الام لـ68% من السكان، وهي تقدم رابطة لغوية قوية. ولكن العرب ينقسمون بحكم الدين الى شيعة وسنة.

ولذا فإن مفهوم التعريق هو مفهوم شامل لأنه يغطي كل العراقيين بغض النظر عن الخلافات اللغوية او العرقية او الدينية، أما مفهوم العروبة فلا يضم هؤلاء الذين يشعرون بأنهم عرب.

اما صدام فلا يتسامح مع الهويات المزدوجة، فتحت قيادته لا يمكن لأحد ان يكون كرديا عراقيا مثلا بل يجب ان يكون عربيا.

كانت مشكلته هي كيفية (تعريب) العراق.

في عام 1970 نظر صدام في الوثائق التركية التي يصنف فيها العراقيون كرعايا إما «عثمانيين» او «فرسا». ومن توه صاغ صدام سياسة تقوم على الطرد الجماعي «للفرس» بصرف النظر عن حقيقة ان بعض أبرز العراقيين، ومن ضمنهم رشيد الكيلاني، الأب الروحي للوطنية العراقية، والجواهري اعظم الشعراء العرب في القرن العشرين، قد صنفوا باعتبارهم «رعايا فُرساً» خلال الحكم العثماني.

نفذت سياسة الطرد الجماعي «للفرس» عام .1972 وبحلول عام 1980 كان حوالي المليون منهم قد طردوا بالفعل. وليس ثمة شك في ان الاغلبية الساحقة من اولئك المطرودين ولدوا وترعرعوا في العراق.، ويعتبرون انفسهم عراقيين ويتحدثون اللغة العربية باعتبارها لغتهم الاصلية. وللتعويض عن غياب هؤلاء، «استورد» صدام حوالي المليون من «العرب الخالصين»، وخاصة من مصر. ولكنه سرعان ما توصل الى ان المصريين المستوردين، لم يكونوا عربا مثاليين، بل كانوا، كما يدعي البعض، مجرد «كسالى من سقط المتاع» الذين لا يأبهون مطلقا لأحلامه حول بناء الامبرارطوريات وتسيير الغزوات.

في عام 1980 قرر صدام «تعريب» الاكراد. وخلال السنوات العشر التالية كانت 4000 قرية كردية في شمال البلاد، قد سويت بالارض، ونقل سكانها الى جنوب العراق، وشتت شملهم وسط الاغلبية التي تتحدث العربية. وكان هذا انقلابا مزدوجا بالنسبة لصدام. فالاكراد المبعدون عن ديارهم كانوا من المسلمين السنة، بينما كان العرب الذين حلوا بين ظهرانيهم من الشيعة.

وبحلول عام 1990، وبعد ان فرغ من استيراد القوى العاملة التي يحتاجها من مصر وفلسطين ومن بلدان عربية اخرى، ادرك صدام انه يمكن ان يحصل على المال الذي يحتاج اليه من اجل بناء امبراطوريته الجديدة من بلد عربي مجاور. وقد وقع اختياره على الكويت التي كان صدام يصفها بأنها «مصرفاً» وليست دولة.

واختصارا نقول ان رؤية صدام كانت على النحو التالي: حانت اللحظة التي وقع فيها اختيار التاريخ مرة اخرى على العرب ليقودوا العالم. و«الفرع» الوحيد من الامة العربية القادر على تحقيق مشيئة التاريخ هو العراق. ولذلك يجب تعريب العراق بالكامل، وان يتم ذلك بالقوة، وعن طريق ابادة الاقليات. لا بد كذلك ان يفرض العراق سيطرته على المصدر الاساسي للثروة العربية، الا وهو النفط. وهذا يعني السيطرة المباشرة على دول الخليج او الهيمنة عليها بطريقة غير مباشرة.

وكان صدام يعرف ان رؤيته تلك تعني الحرب، داخليا واقليميا ضد جيرانه، وفي وقت لاحق يمكن ان تعني الحرب خارج الاقليم. وهذا هو سبب انشغاله بالتحضير للحرب، التي خاضها اربع مرات منذ .1968

وفي هذا الاطار فان بحث صدام عن الاسلحة النووية وعن اسلحة الدمار الشامل، لم يكن اشباعا لحقد دكتاتور معتوه. فهو يعرف انه اذا حصل على تلك الاسلحة فانه سيفرض هيمنته على المنطقة، ويضع يديه على حوالي 50% من احتياطي العالم من النفط، وانه سيعامل بندية كاملة من قبل القوى الكبرى.

شعب واحد، دولة واحدة وقائد واحد، هذا هو في ما يبدو شعار صدام. أهو شعار مألوف؟

ان رؤية صدام تعاني من خطل جوهري: انه لا يكن سوى الاحتقار لكل العرب ومن ضمنهم شعب العراق. ففي خطاب له عام 1977 قال: «هناك لحظات في التاريخ تكون فيها القيادة أصغر من الامة. وهناك لحظات اخرى تكون فيها الامة اصغر من القيادة. ان امة عظيمة بقيادة صغيرة لن تصل الى أي هدف. ولكن قيادة عظيمة يمكن ان تجر امة صغيرة الى مراقي العظمة».

وقد جر صدام شعب العراق، ولدرجة ما باقي العالم العربي، الى مغامرات مأساوية عديدة، خلال العقود الثلاثة الماضية. وبعد فترة قصيرة يمكن ان يجرهم نحو مأساة اخرى، غالبا ما تكون الاخيرة بالنسبة اليه.