كيف يستطيع الحريري حجب صواريخ العم سام؟

TT

عرضنا في المقال السابق ما الذي حدث في القمة العربية الاستثنائية التي بدأت اعمالها يوم الخميس 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978 في العاصمة العراقية بغداد، وما الذي جرى للوفد الذي ذهب الى القاهرة متمنياً على الرئيس السادات اعادة النظر، لكن الرئيس المصري رفض حتى استقبال الوفد. فعاد الموفدون وقد خابت آمال الملوك والرؤساء الذين كانوا ينتظرون في العاصمة العراقية عودة وفدهم قبل ان يتخذوا القرارات التي يرونها ضرورية متمنين ألاَّ يضطروا الى اعتماد القساوة في اي قرار يتم اتخاذه. ولم يكن الملوك والرؤساء في حيرة مما فعله الوفد في القاهرة ولا يدرون بما حدث، ذلك انهم قرأوا بعناية الكلام الذي قاله عنهم الرئيس السادات في خطابه. وكانت قراءتهم متأنية لأن سكرتارية المؤتمر سارعت الى طبع الفقرات التي تعنيهم من الخطاب ووزعتها على الوفود.

وفي ضوء الفعل ورد الفعل، اي في ضوء الخطوة المتمثلة بالوفد والاسلوب الذي اعتمده الرئيس السادات من لحظة الاستقبال غير اللائقة للوفد في المطار الى لحظة ابلاغ أعضائه في الفندق عن طريق الوزير المغمور بأن عليهم مغادرة القاهرة لأن الرئيس لن يستقبلهم وأن جوابه على اخوانه اهل القمة يتمثل في الخطاب الذي القاه امام البرلمان، شعر الملوك والرؤساء انهم قاموا بما يمليه عليهم الضمير والواجب واصدروا بيانهم الختامي الذي اكد «التزام الامة العربية بالسلام العادل الذي يقوم على اساس الانسحاب الاسرائيلي الشامل من جميع الاراضي العربية المحتلة في العام 1967 بما فيها القدس العربية وضمان الحقوق الثابتة للشعب العربي الفلسطيني واقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني». كما اكد على «ان قضية فلسطين هي جوهر الصراع مع العدو الصهيوني وان النضال من اجل استعادة الحقوق العربية في فلسطين والاراضي العربية المحتلة مسؤولية قومية عامة، وعلى جميع العرب المشاركة فيها كل من موقعه وبما يمتلك من قدرات عسكرية واقتصادية وسياسية وغيرها».

ودعا البيان كل الدول العربية الى «دعم المقاومة الفلسطينية من خلال منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني من اجل التحرير واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير واقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني»، والى «الالتزام بالحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية من خلال منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني من اجل التحرير واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير واقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني، والى «الالتزام بالحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للعمل الفلسطيني».

وأكد البيان الالتزام بمقررات مؤتمر القمة وخاصة قمة الجزائر وقمة الرباط مشيراً الى «ان المبادىء الجوهرية التي لا يجوز الخروج عنها او التساهل فيها عدم جواز انفراد اي طرف من الاطراف العربية بأي حل للقضية الفلسطينية بوجه خاص وللصراع العربي ـ الصهيوني بوجه عام. ولا يُقبل اي حل الاَّ اذا اقترن بقرار من مؤتمر عربي يُعقد لهذه الغاية».

وتضمَّن البيان عدم موافقة مؤتمر بغداد على اتفاقيتي كامب ديفيد و«عدم التعامل مع ما يترتب عليهما من نتائج ورفضه لكل ما يترتب عليهما من آثار سياسية واقتصادية وقانونية وغيرها من آثار. وقرر المؤتمر دعوة حكومة جمهورية مصر العربية للعودة عن هاتين الاتفاقيتين وعدم توقيع اي معاهدة للصلح مع العدو ويأمل المؤتمر منها العودة الى حظيرة العمل العربي المشترك. وفي هذا الصدد اتخذ المؤتمر عدداً من القرارات لمواجهة المرحلة الجديدة واكد ضرورة توحيد الجهود العربية كافة من اجل معالجة الخلل الاستراتيجي الذي ينجم عن خروج مصر من ساحة المواجهة. وقرر المؤتمر ان تنسق الدول التي لديها الاستعداد والمقدرة على المشاركة بجهود فعالة، كما اكد ضرورة التمسك بأنظمة المقاطعة العربية واحكام تطبيق بنودها».

تأتي الآن وبعد حوالى ربع قرن لنجد امامنا حالة مماثلة الى حد ما. هنالك وضع عربي مرتبك وهنالك خشية من جانب الجميع على العراق. وهنالك موقف عربي شبه موحد خلاصته ان حرب اميركا عليه مرفوضة وأن على اهل الحكم في العراق ان يمارسوا من المرونة اقصاها من اجل تفادي هذه الحرب. وفي الوقت نفسه هنالك تبدُّل نوعي في العلاقة بين الحكم العراقي وبعض الحكام العرب الذين عتبوا عليه او قطعوا العلاقة معه بعد الذي فعله بالكويت يوم الخميس 2 اغسطس 1990، وكيف ان هذا الفعل احدث زلزالاً في العلاقات العربية وتسبَّب في حرب على العراق وحصار له يدفع ثمن تداعياته حتى الآن شعباً ونظاماً. كما ان هنالك اقتناعاً لدى كل الانظمة العربية بأن الحرب التي يريد الرئيس بوش الابن شنها على العراق ستجعل المنطقة بالكامل في حالة اضطراب لا مثيل له وقد ينتهي الأمر الى ان احد ثلاثة امور ستحدث وربما تحدث كلها مجتمعة. وهذه الامور هي اما وضع اليد الاميركية بالكامل على العراق وتقسيمه او الابقاء عليه موحداً وجعله بمثابة غرفة العمليات العسكرية والسياسية للولايات المتحدة في المنطقة. واما حدوث مفاجآت من جانب العراقيين تكون نتيجتها غرق العظَمَة الاميركية في كثبان رمال الخليج على نحو غرقها السابق في مستنقعات فيتنام. واما الاكتفاء ببعض الضربات القاسية التي تُحرج النظام البعثي في العراق فتجعله يتأمرك على نحو ما فعل آخرون كثيرون، والتأمرك يستوجب اعادة نظر جذرية من حيث النظرة الى اميركا ومن حيث تعديل النهج في ما يخص اسرائيل.. اي بما معناه يصبح البعث جزءاً من الكل او يصبح ارثاً بالمفهوم العلمي وتراثاً بالمفهوم الوجداني وتحل محل الحكم القائم حكومة فضفاضة يراعى فيها تمثيل المعارضة، وهذا تذويب متدرج للنظام ولرئيسه صدام حسين، كما أنه بمثابة قطع الطريق على الاستمرارية البعثية - الصدامية بمعنى توريث الحكم الى جيل الأبناء.. وهو هنا تحديداً قصي صدام حسين الذي يمسك بالمفاصل الدقيقة في النظام الحالي، والذي بات يحظى بشرعية حزبية تجيز له ان يكون في الصدارة وفي قمة الحكم، على نحو شرعية حصل عليها من قبل الدكتور بشار حافظ الأسد في سورية فورث الحكم عن والده، وبداية شرعية حصل عليها قبل ايام جمال حسني مبارك تجيز له ان يكون الوريث للرئيس حسني مبارك. أطال الله عمر الوالد.

في الوقت نفسه نلاحظ ان هنالك خشية من أن تتأثر العلاقة العربية - الاميركية، وهذا قد يؤدي الى دخول اطراف دولية تنتظر فرصتها على خارطة التعامل. ويمكن للمرء أن يستشف هذه الخشية من تصريحات يدلي بها بين الحين والآخر بعض المسؤولين في المملكة العربية السعودية ومصر اللتين هما أكثر الدول العربية ارتباطاً استراتيجياً بالولايات المتحدة.

ازاء هذا المشهد الصاخب وما يحويه من الغام قابلة للانفجار قد يكون من الأفضل معاودة تجربة ما فعله الملوك والرؤساء عام 1978 وأوردنا بعض مضامينه في السطور السابقة. وقد يكون من الأفضل تشكيل وفد يمثل جناحي الأمة خير تمثيل، أي بما معناه الوفد الذي ترتاح اليه السعودية ودول الخليج وتطمئن الى مقاصده مصر ويكون حريصاً على اطيب العلاقة مع الادارة الاميركية ومقتنعاً بضرورة استعادة العراق ودرء الأذى عنه وموضوعياً في مسألة الصراع العربي- الاسرائيلي، ومقاتلاً جسوراً من اجل الاعمار والتنمية في العالم العربي، واميناً في ما يعرض من افكار وما يسمع من مقترحات، ويلقى من الذين يطرق باب دواوينهم الاستقبال الجيد والمراعاة الممكنة.

واذا جاز للمرء مثل حالي الذي يعرف الاشخاص والدخائل ونقاط القوة والضعف في السياسات والمسؤولين عن تنفيذها، وعايش عن قرب ومن الداخل ظروف وخلفيات محاولة القمة الاستثنائية في بغداد عام 1978 لدى الرئيس السادات.. اذا جاز لهذا المرء ان يسمي فان الوفد يكون برئاسة رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانية ممثلاً العماد اميل لحود رئيس القمة العربية الدورية الثانية التي استضافها لبنان في آذار (مارس) الماضي، وولي عهد البحرين ممثلاً رئيس القمة العربية الدورية الثالثة التي ستستضيفها المنامة في مارس 2003 وولي عهد المغرب الامير رشيد على اساس انه يمثل في الوفد الجناح المغاربي للأمة وعلى اساس ان والده الراحل الحسن الثاني هو رمز تفكيك الحدة العربية في موضوع الصراع مع اسرائيل وصولاً الى اتفاقية كامب ديفيد التي طالما شجع حدوثها وطالما ذلَّل العقبات الكثيرة في شأنها، وأن القمم العربية الكثيرة في الرباط وفاس والدار البيضاء على مدى ثلاثة عقود تشهد على ذلك وتشهد على حرصه الملحوظ بأن لا تتأثر العلاقة العربية مع الولايات المتحدة من جرَّاء اي انتكاسات. وهذا الوفد يزور بغداد بهدف تعطيل اي ذرائع ثم يتوجه الى واشنطن بهدف محاولة اصراف النظر عن مخطط العلاج الحربي.

ومثل هكذا وفد من شأنه ان يحقق ثلاثة امور اساسية هي:

ـ شبه استعادة للعراق بنظامه الحالي، اما الاستعادة الكاملة على نحو استعادة العرب لمصر فتتم في القمة الدورية الثانية في البحرين في مارس المقبل.

ـ ارضاء للنفسية العراقية بأن كل الأشقاء العرب ومن دون استثناء زاروهم. وعندما نقول ذلك فعلى اساس ان تشكيلة الوفد تعكس انطباعاً بأنه يمثل القادة العرب خير تمثيل. وبعد الروحية التي سادت القمة العربية الدورية الثانية في بيروت وما حدث فيها من مصالحات ومصافحات، فان الخطوة لا تبدو مستغربة.

ـ طمأنة الصديق الاميركي بأن مكانته محفوظة ورؤيته لمستقبل العلاقة قابلة للنقاش الموضوعي... انما ليس بعد اندلاع الحرائق في المنطقة بفعل الحرب على العراق.

في حال جاء التصرف العراقي على غير ما يتمنى الوفد يصبح من الطبيعي ان يقتلع النظام في العراق بنفسه الشوك الاميركي ويصبح منطق القادة العرب امام الرأي العام اقوى بمعنى انهم فعلوا كل ما في استطاعتهم فِعْله. وغالب الظن ان الرئيس صدام حسين سيتصرف مع هذه الهدية الثمينة على النحو الذي يريح الأشقاء العرب ويجعل صديقهم الاميركي يعدِّل في نظرته وصديقاً له مستقبلاً. الم يحدث ان كاد يكون قبل خمس عشرة سنة صديقاً؟

وفي حال جاء التصرف الاميركي على غير النحو المرجو وكان هنالك اصرار على اعتماد الحل العسكري، فهذا معناه ان العراق سيكون فاتحة عدوان اميركي واسع النطاق على المنطقة. وفي هذه الحال لن يكون اي عربي واقفاً يتفرج على اميركا ومعها اسرائيل وربما بريطانيا تضع اليد على المنطقة. في هذه الحال ايضاً لا يعود من المستبعَد أن تتحول الحملة العسكرية المشار اليها الى حرب عالمية تكون الثالثة بالفعل وربما الأكثر دماراً وشراسة من سابقتيها الاولى والثانية، وهي حرب تتحمل وزرها الادارة الاميركية الحالية التي قد يتبين أن الاتيان بها قبل سنتين كان لهذا الغرض الشرير.

ويبقى القول ان هذا الحل السحري هو بمثابة مخرَج لكل الأطراف مجتمعة في حال ارادت حفظ ماء الوجه. ثم ان رفيق الحريري بالذات لهذا الدور هي لحظة قد لا تتوفر في ظروف اخرى فضلاً عن ان دور الرجل لم يعد من اجل «سوليدير» مزدهرة... وانما من اجل منطقة يجب ألاّ تلتهمها نيران صواريخ العم سام.