سلام السودان نموذجا

TT

يفترض أن تلتئم مباحثات السلام السودانية يوم الاثنين المقبل في كينيا بعد انقطاع ستة اسابيع. ومع ارتفاع قعقعة السلاح في الجنوب والشرق، الا ان السبب الحقيقي لوقف المفاوضات ابتداء ما راته الحكومة من عدم استقامة في ميزان الدور الذي تلعبه سكرتارية منظمة «الإيقاد» المشرفة على المفاوضات ومن خلفها الوسطاء. وجاء سقوط مدينة توريت في شرق الاستوائية ليوجد الذريعة والمبرر للحكومة لوقف المفاوضات وإعلاء راية العمل العسكري مع الدعوة الى وقف كامل لإطلاق النار.

حصيلة الاسابيع الستة المنصرمة من اللقاءات والمباحثات تمخضت عن وعد من الحركة الشعبية باحلال فترة طمانينة خلال فترة المفاوضات فقط، وهو ما يمكن ان يمثل مخرجا معقولا للحكومة يبرر لها العودة الى طاولة المفاوضات مرة اخرى، هذا اذا تم التغاضي عن سقوط همشكوريب في الشمال في هذه الفترة. لكن بالنسبة للقضية الاساسية التي توقفت المفاوضات بسببها وهي انحياز الوسطاء الى جانب الحركة، فان فترة التوقف لم تؤد الى اي تحسن في تعديل الميزان، بل على العكس سلحت الوسطاء خاصة الولايات المتحدة بادوات تجعلها أكثر ميلا الى الضغط على الجانب الحكومي لتقديم التنازلات المطلوبة والا انجرفت الادارة مع مجلسي النواب والشيوخ في تبني إجراءات عقابية.

يوم الاثنين الماضي شهد تطورين مهمين في هذا الجانب: إجازة مجلس النواب قراراً بشان السودان يمكن ان يطلق يد الادارة للقيام ببعض الاجراءات ضد الحكومة السودانية مثل تجريدها من عائدات النفط المستخرج من الجنوب، وحظر دولي للسلاح عنها عبر الامم المتحدة، ومنع المؤسسات الدولية من تقديم القروض للسودان، وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي وفتح قنوات بديلة للإغاثة ليس للحكومة دور فيها وذلك حال توصلت الادارة الى ان الحكومة ليست جادة في التوصل الى سلام، وحدد البعض أمثال النائب الجمهوري سبنسر باخوس من الاباما الفترة بستة اشهر.

قرار المجلس هذا اجيز بأغلبية 359 صوتا مقابل ثمانية اصوات. ويمكن للمولعين بالارقام الاشارة الى ان هذا القانون يمثل تطورا نحو الاحسن في علاقات الخرطوم وواشنطن بدليل ان ذات المجلس اصدر قرارا عدائيا في حزيران (يونيو) العام الماضي باغلبية 422 صوتا مقابل صوتين يتيمين فقط، اي يمكن استخلاص وجود تراجع في عدد الاصوات العدائية وتقدم في عدد الاصوات المساندة للسودان.

لكن لا ينبغي النوم على حرير مثل هذا التحليل. فالقرار الاول تضمن فقرة مثيرة للجدل حتى وسط الأمريكان وتتعلق بمنع الشركات الاجنبية العاملة في ميدان النفط في السودان من الدخول الى اسواق المال الأمريكية مقترضة، ولم تتجدد الاشارة الى هذا في القرار الجديد. ثانيهما وهو الاهم انه خلال هذه الفترة تعاونت الحكومة باقصى ما عندها مع الجهد الأمريكي لمكافحة الارهاب، وكل الذي حققه هذا في الساحة العامة وعلى امتداد 16 شهرا كسب ستة اصوات اضافية. والسؤال كم تحتاج من وقت لتحقيق اختراق رئيسي على الجانب التشريعي واهم من هذا ماذا لديها لتقدمه لتحقيق الاختراق المنشود اكثر مما قدمته حتى الآن.

اما التطور الثاني فيتمثل في صدور تقرير الحرية الدينية الذي تعده وزارة الخارجية، وجاء ذكر السودان في موقعين اولهما في قائمة سوداء من ست دول تمثل مصدرا للقلق على مستوى الحرية الدينية فيها، والثاني في قائمة اخرى من سبع دول تنتهك فيها حقوق الاقليات الدينية تحديدا. ويتيح هذا التقرير امام الادارة القيام بتحركات والاختيار من بين مجموعة اجراءات لممارسة ضغوط على الدول المارقة في هذا الخصوص. وهنا يتبوا السودان موقعا محوريا ويصبح بالتالي مرشحا رئيسيا كي تمارس عليه الضغوط خاصة اذا اضيف الى ذلك قانون مجلس النواب المشار اليه.

الضغوط المتوقعة ستركز على جانب وحيد واساسي وهو تحقيق السلام، المجال الوحيد الذي يمكن للحكومة ان تسهم فيه فيما يخص واشنطن. لذا على المفاوضين توقع المزيد من الضغوط، وهي ضغوط تسندها رغبة تشريعية من ناحية ومصلحة ذاتية للادارة الأمريكية من ناحية ثانية.

وهذه المصلحة تتجاوز فتح السودان امام شركات النفط الأمريكية الى هدف اوسع وهو تقديم السودان نموذجا للانجاز الأمريكي وكيفية تدجين نظام اسلامي متهم بالتطرف ليفسح المجال امام الاقليات الدينية والثقافية فيه، وهي طبعة منقحة مما تعتزمه الادارة تجاه العراق، الذي يؤمل ان يكون نقطة اختبار وارتكاز لشرق اوسط نفطي جديد.

والسودان بهذا مرشح للعب دور اكبر على الساحة الافريقية سواء في منطقة شرق ووسط افريقيا الموجود فيها جغرافيا او في فضاء النطاق السوداني الممتد حتى غرب القارة، حيث للاسلام دور معروف في التشكيل الثقافي والاجتماعي ويتهيا ليلعب دورا سياسيا. هذه المنطقة تنظر اليها الادارة باهتمام على اساس انها مخزون امدادات نفطية مستقبلية لدرجة التفكير الجدي في اقامة قاعدة عسكرية في ساوتومي وبرنسيبي الصغيرة التي لا يصل عدد سكانها الى 150 ألف نسمة، لكنها تسبح فوق بحيرة من النفط، ومن هنا جاء اجتماع الرئيس جورج بوش بعشرة من الرؤساء الافارقة من هذه المنطقة الشهر الماضي.

لكن اللاعب الرئيسي في هذه المنطقة هو نيجيريا، المنتج النفطي الكبير وعضو اوبك، التي بها اغلبية معتبرة من المسلمين في الشمال وتسعى الى تطبيق الشريعة الاسلامية، الأمر الذي يمكن ان يسمح بنمو تيارات إسلامية متطرفة تنتشر في المنطقة وتهدد بالتالي جهود تقليل الاعتماد على نفط الشرق الاوسط.

ولهذا يمكن ان يمثل السودان الخارج من عباءة التطرف، المتواءم مع التوجه الأمريكي نموذجا يمكن تسويقه في هذه المنطقة للجم تيارات التطرف، التي اصبحت قضية سياسية داخلية في الولايات المتحدة، وتجاوزت الاختصاصيين ومراكز الابحاث الى الاهتمام العام. والسودان مؤهل بصورة اضافية للعب هذا الدور التأثيري بحسب تاريخه من الممالك الاسلامية القديمة في دارفور وكونه طريقا للحجاج المتجهين من غرب القارة الى الاراضي المقدسة الى جانب التاثير الكبير للثورة المهدية في تلك المنطقة. قبل المفاوضات الحالية عقدت «الايقاد» جولات مفاوضات بعدد سنوات الحرب الاهلية لم تثمر شيئا. هذه المرة يبدو الوضع مختلفا بسبب العامل الخارجي تحديدا. ومع ان الحكومة تدخل هذه الجولة وهي اضعف مما كانت عليه قبل تعليق المفاوضات خاصة لجهة انحياز الوسطاء الى جانب الحركة، مما تم تفصيله سابقا، ومن ثم احتمال تعرضها الى ضغوط اكبر، الا ان السلام بأي ثمن يمثل انجازا وهدفا يستحق التضحية بشانه. ويبقى الخيار المتاح كيفية تعبئة الجبهة الداخلية ورصها خلف هدف السلام، الأمر الذي يمكن ان يدعم الموقف الحكومي ويخرجه من الخانة الحزبية الى أفق قومي أرحب.