توني بوند يوجه أميركا لمصلحة العالم

TT

هل يوجه رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، السياسة الاميركية او يتوجه بها؟ هناك الكثير ممن اجابوا عن هذا التساؤل، بأن بلير هو كُليب الرئيس الاميركي جورج بوش، او بالأحرى جروه، حتى لا يسود الظن بأننا نتحدث عن الهلالية. لكن للحقيقة، كالعادة، عدة وجوه، وقد يوصلنا تفحص الواقع الى اجابة اخرى عن ذلك التساؤل، وربما تفيدنا ذكرى مرور اربعة عقود هذا الاسبوع على عرض اول افلام جيمس بوند البريطانية القحة في تحسس النفسية البريطانية واسلوب لندن السياسي.

بريطانيا ترفض الانضمام للمهزومين، وحين تُحشر في الزاوية، كما في فترة الحرب العالمية الثانية، فإنها ترفض الاستسلام، وتظهر شراسة عنيدة في الصمود يمكن لمن يريد التعرف عليه مراجعة الارقام حول الحرب العالمية الثانية.

كانت نجدة بريطانيا واوروبا من النازية قد جاءت عبر تحايل بريطاني وتوريط متدرج للولايات المتحدة في تلك الحرب، التي انهت دور القوى الاوروبية في قيادة واستعمار العالم، وسلمته للولايات المتحدة. ابسط طرق التعرف على الفترة التالية وكيف اصبحت بريطانيا تنظر لنفسها، نجده مجسداً في قصص جيمس بوند، التي كتبها ايان فليمنج، وبدئ بتصويرها كأفلام منذ اربعة عقود.

جيمس بوند، الذي يُجسم بريطانيا طبعاً، يُسخر عقله وبراعته ومخترعات بلاده، وقليلا من العضلات لإنقاذ العالم من كوارث يصنعها الاشرار مرة بعد الاخرى. وعندما يحتاج الامر الى قوى اكثر ودعم لوجستي ومعدات واموال ضخمة، نجد جيمس بوند كل مرة يستغل الاميركيين في ذلك، وهم دوماً الطيبون الاقوياء والاغبياء الاصدقاء. اشرار جيمس بوند (للآن) كانوا من الالمان، ثم السوفيات، والعصابات المتسلطة على العالم او تريد التحكم به من البحر او الفضاء. العربي عند البريطاني بوند، كان عاملاً مساعداً للخير او للتسلية، وهذا فارق شاسع بين هذه القصص وبين ما تنتجه هوليوود عن العرب وتسمم به الرأس الاميركي، وبقية العالم، منذ زمن.

بوند اذاً يحل المشاكل ويحرر العالم من الاشرار بذكائه وبدعم اميركي، وعملياً، فإن السياسة البريطانية الفعلية ترى آيديولوجيتها في الضوء ذاته، مع تبدل الاشرار طبعاً. وبالعودة للسؤال عما اذا كان يمكن وصف رئيس الوزراء البريطاني بتوني بوند، او جرو بوش، يمكننا مراجعة احداث الاسابيع الماضية من منظور محدد. فقبل ان يسافر رئيس الوزراء، في المرة الاخيرة الى واشنطن، كان الرئيس بوش على وشك بداية الهجوم على العراق، بدون اخذ موافقة او استشارة من الكونجرس الاميركي او من مجلس الامن، ومن يراجع تلك الايام سيجد ذلك جلياً. بعد عودة بلير من واشنطن بدأ بوش يتحدث عن دور الامم المتحدة، وأعد خطابه لاقناع زعماء العالم بأهمية الحرب قبل فوات الاوان. كما غير الرئيس خطته وشن حملة مركزة لاقناع الكونجرس بمنحه تفويضاً بالحرب.

ذلك فارق شاسع، وتغير حقيقي حصل بين معطيات فترة ما قبل وما بعد سفر بلير لواشنطن في السابع من سبتمبر، لكن الاهم من ذلك والاجدر بالملاحظة، هو ان الادارة الاميركية، وبالتحديد الصقور فيها، وجدوا انفسهم في أسر الامم المتحدة والكونجرس، اذ لم يعد بوسع الرئيس التراجع عن موقفه. اصبح بوسع فرنسا التهديد باستعمال الفيتو ضد أي قرار يخول بالحرب من دون مراجعة لمجلس الامن. لو لم يكن بوش قد الزم نفسه، حسب نصيحة حليفه بلير، بالذهاب للحرب ولكن مع مجلس الامن، لما امكن لفرنسا شريكة بريطانيا في دولة الاتحاد الاوروبي ان تلعب أي دور مؤثر على صقور واشنطن.

لو لم يكن توني بوند صديقاً لبوش، او بالاحرى لو لم يكن صديقه الوحيد، لما استمع اليه ولكانت النتائج غير ما نراه اليوم. من راقب تلك الفترة وما تلاها كان سيلاحظ ان الحكومات الاوروبية، وعلى غير عادتها، لم تشجب «الاندفاع» البريطاني عن اوروبا تجاه واشنطن، كانت السمات: سكوتاً عن تجاوب بريطانيا لواشنطن، وتصدياً المانياً فريداً للسياسة الاميركية بصدد الهجوم على العراق، وتلويحاً فرنسياً بقبول أي افعال، ولكن حسب اوامر الامم المتحدة، وتأييد بقية حكومات دولة الاتحاد لدور اممي. فهل كان هناك توزيع ادوار في اوروبا لإرسال الصقور الى دائرة القانون الاميركي عبر الكونجرس، ولمجال الشرعية الدولية عبر مجلس الامن؟

قد يقول البعض، ان جهودا كهذه، لو وجدت اصلاً، فانها اخرت موعد الحرب فقط، وربما فتحت امامها مجالاً لمشاركة دولية. أي بمعنى اخر، هل احتمال قيام حرب لاحقة عبر الامم المتحدة افضل من حرب اميركية بقرار رئاسي فقط؟

الحرب سيئة بأي شكل، وربما تمكنت دول العالم من استمرار حجب التخويل الدولي عن بوش، الذي اصبح من الاصعب عليه الخروج من المصيدة الآن، وهذا سيكون نجاحاً لجيمس بوند البريطاني في منع الدمار العالمي. لكن هل الحرب الدولية افضل من الرئاسية؟ نعم، وبالتأكيد انها اقل ضرراً لكل الاطراف وللعالم. دخول الحرب بقرار رئاسي من دون الكونجرس ومجلس الامن سيعني ان الرئيس لن يتقبل أي تراجع او هزيمة حتى لا يفقد مركزه. هذا يعني استعمال اشد القسوة والدمار لمنع الخسائر الذاتية وضمان النصر الباهر ورفض مطلق لفكرة التراجع، وذلك على غرار التورط في فيتنام، والذي لم يخدم أي طرف في النهاية.

أما الحرب بقرار ومشاركة دولية فانها مختلفة تماماً، كون هدفها محدداً، ولا تقبل بأهداف خارج اطار القانون الدولي، ويحكمها رأي عام عالمي لا يريد رؤية خسائر بشرية لفترة طويلة. وتُلزم تلك الحرب كل المشاركين فيها بمسؤوليات ما بعدها تجاه الطرف المعتدى عليه. وأهم من هذا وذاك، فإن أي مقاومة، وبالتالي خسائر لدى الاطراف المهاجمة، ستؤدي الى نهاية الحرب والتراجع عنها بسرعة، اذ يسهل توزيع مسؤولية الهزيمة من دون الخوف من تحميلها لحكومة محددة.

ضمن تلك الرؤية فقد انقذ توني بوند اميركا من الحرب حتى الآن، وأنقذ كل من كان سيُجر اليها عنوة، وانقذ بالطبع الشعب العراقي من ويلاتها، وخصوصاً لو كانت قد تمت بقرار رئاسي منفرد. الى جانب ذلك، وحتى الآن، فقد وفرت مناورة بلير مع بوش، وتوريطه في مجلس الأمن، الكثير من الوقت الذي كان لازماً للتوصل الى اتفاقات دبلوماسية، مثل قبول العراق بعودة المفتشين الدوليين، وهذا ما يُصعب على صقور واشنطن الافلات من كماشة مجلس الامن.

لقد شهدت لندن اخيراً اكبر مظاهرة شعبية ضد الحرب على العراق، والمعروف ان جماهير حزب العمال الحاكم تعارض الحرب ضد العراق. ولكن في مؤتمر الحزب السنوي الاخير، هذا الشهر، تم التوافق على ترك الخيارات مفتوحة امام السياسة البريطانية، اذ لا يمكن اتخاذ قرار مضاد للحرب ثم مواصلة أي ضغط على النظام في العراق ليمتثل للقرارات الدولية، او ضمان الاستماع من الأذن الاميركية. لقد ترك الحزب لتوني بوند فرصة مواصلة الجهود لإبعاد العالم عن الحرب حتى لو كان ذلك بالانضمام الى بوش في الصراخ من اجلها، فالعبرة بالنتائج.