على طريق الانهيار

TT

في الوقت الذي تتنافس فيه الدول وتتصارع من أجل احتلال مواقع أفضل حالا في نظام دولي جديد آخذ في التكون، وفي الوقت الذي تتحد فيه قارة المشكلات وأرض المنازعات السابقة لتصبح كيانا واحدا، وفي الوقت الذي تعيد فيه دول النظر في سياساتها الداخلية والخارجية، من اجل مستقبل افضل للدولة والمجتمع في هذه الأقطار، وفي الوقت الذي يشهد ميلاد عالم جديد بكل متغيراته ومبتكراته واحداثه في نهاية قرن وبداية قرن جديد، في مثل هذا الوقت نجد منطقة جغرافية وبشرية معينة هي المنطقة العربية، تبدو وكأن الأمر لا يعنيها في شيء، فهي خارج الزمان وخارج المكان بالنسبة لهذا العالم الجديد الذي يوشك ان يخرج من رحم العالم القديم. صراعات في كل مكان في الداخل والخارج، والغوص في قضايا ومشكلات واشكالات عفى عليها الزمن واخرجها التاريخ من متنه. صراعات ليس القصد منها ولا في نتيجتها تحسين الوضع في الداخل أو الخارج، ولا هي تقوم على أمور جوهرية تمس كيان الجماعة ومستقبلها وفاعليتها، بل انها تبدو للعين المراقبة عبثاً ليس بعده عبث: صراع من اجل الصراع فقط واشكالات من اجل الاثارة الفارغة فقط. هذا لا يريد ذاك، وتلك الجماعة تتمنى دمار هذه الجماعة التي تبادلها نفس المشاعر، وهذه الدولة تنتهز الفرصة للانقضاض على تلك الدولة وتهدر مواردها الاقتصادية والبشرية وغيرها في سبيل هدف لا علاقة له بفاعلية او ايجابية او مستقبل، بقدر ما هو مرتبط بمخيلة وغطرسة هذا او ذاك من ارباب السلطة والساعين الى الزعامة ولو كان الثمن هو جماجم الجميع.

يحدث مثل هذا العبث في هذه المنطقة العربية في الوقت الذي يسير فيه العالم، او يحاول ان يسير قدما نحو المستقبل وفق رؤية واضحة وخطة اكثر وضوحا. يحدث مثل هذا العبث في الوقت الذي يسعى فيه الجميع الى الحفاظ على الذات وترسيخ وجود هذه الذات والدفاع عن الهوية دون ان يغيب عن الأذهان ان العالم يصغر يوما بعد يوم بحيث انه قد بدأ في التحول الى أصغر من قرية صغيرة. انه الدفاع عن الذات والهوية في عالم متحول متغير ولكن دون اللجوء الى آليات الانعزال ورفض الآخر ونحوها، التي اصبحت اسلحة بالية غير ذي جدوى وغير ذي فاعلية.

يتجلى هذا العبث الذي يضرب المنطقة العربية في نظرة واحدة شاملة، وان كانت سريعة، الى مجرى الأحداث في هذه المنطقة التي يبدو انها تستلذ الألم وتتمتع بالانتحار وجزر الذات. ففي العراق تدور مجزرة رهيبة تأكل الصغير قبل الكبير، وحريق هائل يلتهم الاخضر واليابس وكل ذلك في سبيل ماذا؟ وثمن لماذا؟ انه مجرد ثمن بخس بسيط يدفعه العراق واهل العراق من اجل كرامة وكبرياء شخص اثملته الزعامة واخلت في توازنه الالوهية الارضية المدعاة. ليست كرامة الامة هي التي على المحك، وليست كبرياء الشعب هي الهدف كما يدعى ويقال، ولكنها كبرياء شخص اعتقد في لحظة وهم أنه الأمة وأنه الوطن وانه الشعب ولا شيء سواه، وهذه هي طبيعة الاستبداد والطغيان الذي ابتليت به هذه الأمة على امتداد تاريخها المجيد. وحتى لو افترضنا جدلا ان «كرامة» الأمة أو «كبرياء» الشعب هي الهدف وهي التي على المحك، فهل من «كرامة» الأمة ان يمرغ انفها في التراب، وهل من «كبرياء» الشعب ان يداس بالأقدام وتقيد منه الأيدي والارجل؟ ان لم يكن كل ذلك عبثا فماذا يكون؟ ان هذا بالضبط هو ما يجري في العراق دون حاجة الى الدخول في لجة التحليلات السياسية المعقدة او استخدام الفاظ ومفاهيم ضخمة. ان الصورة بسيطة وفي غاية البساطة: علاقة مرضية «انتحارية» بين مستبد وشعب مقهور، بين زعامة فردية لا تعرف الحدود وامة لا تملك من أمرها شيئا وما كانت قد ملكت من امرها شيئا. اما بقية الأشياء فهي ليست الا تداعيات وأعراض طارئة على جوهر هذه الاشياء الذي هو ما ابتليت به هذه الأمة من تطلعات انصاف الالهة والطموحات الفرعونية لثلة ممن تشملهم الزعامة وصناعة المجد الشخصي الزائف ولو على أنقاض كل شيء. والا ما الحكمة من تلك اللعبة التي تجري بين زعيم العراق، ولا اقول العراق، والولايات المتحدة الامريكية؟ فهو لا يحارب ويحسن الحرب ولا يسالم فيحسن السلام: انه فاشل في المجالين وهو يعلم ذلك كل العلم، فما الحكمة من كل اللعبة اذن؟

«زعيم» لا يحسن الحرب ولا يقدر عليها وفي نفس الوقت لا يريد السلام كما انه غير قادر على المقاومة، لأنه لا يؤمن في داخله بما يقول أو يدعي من قيم وشعارات. ولكنه العبث المسلط سيفه على هذه المنطقة من العالم التي تنتشي بالزعامات وتصفق لانصاف الالهة غير عالمة ان هؤلاء انما الى الدمار يجرونها، وغير قادرة على اتخاذ مسار جديد من اجل عالم جديد. انه تاريخ مفجع لأمة متأزمة وأوطان غير قادرة على الثبات.

هذا هو واقع «الأمة» التي من المفروض ان تكون «خير أمة اخرجت للناس» والتي وصفها بعضهم بأنها «ذات رسالة خالدة»، فأين الواقع من المثال. نحن هنا لا نندب حظا ولا نضرب اخماسا بأسداس بقدر ما نصف واقعا ونصور صورة: انه واقع مر، وصورة اكثر مرارة.. ولكنه الواقع الذي يلقي بكلكله على من يشاء ومن لا يشاء. ما الحل للخروج من هذا الواقع المر؟ نحن هنا لن ندخل في تفصيلات وتحليلات مكانها غير هذا المكان ومجالها غير هذا المجال، ولكننا نلخص الحل في شيء واحد وبسيط: أعيدوا للانسان كرامته ومجدوه لا بالقول والشعار ولكن بالفعل والواقع. اعطوه الحرية المسلوبة والعدالة المصلوبة والأمن المفقود: أعيدوا للانسان انسانيته، بغير ذلك فإن كل شيء هراء مهما كان جمال الشعارات وسحر الكلمات وضخامة المفاهيم. بغير ذلك، فإنه لا مستقبل ولا أمة ولا وطن، اذ ان المستقبل دائماً للانسان فإذا انعدم الانسان انعدم كل شيء.