عندما يخطئ ساسة لبنان تعريف الديمقراطية

TT

من أطرف الدعايات الكلاسيكية على التلفزيون البريطاني دعاية لشركة تأمين عنوانها «نحن لا نحّول مشكلتك إلى معضلة».

هذا العنوان ابعد ما يكون عن ذهنية حلحلة المشاكل السياسية في لبنان، حيث يسهل تحويل أي مشكلة الى معضلة.. بل الى كارثة. ومن تابع السجالات والتعليقات والاجتهادات السياسية حول موضوعي «الدائرة الواحدة» و«مجلس الشيوخ» يلاحظ كيف انعدم التفكير السلس والمنهجي القادر على تخليص الطرح السياسي من حالة الارتباك، وحمله بعيدا عن المحاصرة والمجابهة والالتفاف.. كما لو ان ما يسوّق من أفكار أو خطط جزء من «حرب» متاريس تكتيكية. بل ان كثيرين ممن أدلوا بدلوهم في هذين الشأنين المتلازمين اعتبروا ان الساعين الى «الانتصار» في هذه «الحرب» ما عادوا يكتفون بتحقيق انتصارهم بـ «النقاط» بل يسعون الى الفوز بالضربة القاضية!

الواقع ان السياق العام للاحداث بدا قريبا من تصديق هواجس المتخوفين من الضربة السياسية القاضية. ولكن أولئك الذين يزعم انهم ماضون قدما في اتجاه تحقيق الغلبة والتركيع ليسوا بالضرورة اصحاب مشروع متجانس واحد، رغم ان رد فعل المعارضة المسيحية على موضوعي «الدائرة الواحدة» و«مجلس الشيوخ» كان متوقعا، ولعله ـ على الاقل بالنسبة لـ «الدائرة الواحدة» ـ من الثوابت.

أمر آخر جدير بالتوقف عنده هو ان رد فعل المعارضة المسيحية جاء عجولا جدا، وبالتالي شابته شوائب لا تليق بمراجع قانونية وتشريعية مشهود لها بالكفاءة العالية.. ووصل بالبعض الى التلويح بالالغاء المضاد.

ومن دون الغوص في تفاصيل يصعب حتى على أعتى مراقبي السياسة اللبنانيين ملاحقتها يمكن تلخيص السياق العام بالمعطيات التالية:

1 ـ هناك شبه اجماع عند اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، موالين ومعارضين، على ان النظام الانتخابي الحالي بحاجة الى اعادة نظر، فهو من ناحية لا يحقق التمثيل الحقيقي للقوى الحزبية المنظمة التي تخترق حواجز الطائفية والحيز الجغرافي الضيق، ومن ناحية ثانية لا يكفل التفاعل الامثل بين النائب وناخبه المباشر.

2 ـ هناك تفاهم بين اللبنانيين عبّر عنه ممثلوهم في الطائف ضمن «اتفاقات الوفاق الوطني» على صيغة ـ عمومية الابعاد بعض الشيء ـ تقوم على اعتماد المحافظة اساسا للدائرة الانتخابية. غير ان هذا التفاهم لا يدخل في تفاصيل أخرى حول عدد المحافظات أو شكل الانتخاب ضمن هذه المحافظات، أهو أكثري أم نسبي أم خليط من الاثنين.

3 ـ بسبب «عمومية» ابعاد اعتماد المحافظة اساسا للدائرة الانتخابية «وضبابيته».. حصلت في دورتين انتخابيتين متتاليتين استثناءات كانت ضرورية لجوهر الوفاق الوطني ـ والطائفي ـ، الا ان هذه الاستثناءات خلقت سابقة شوهت الاطار الجامد المجرد لمفهوم «المحافظة ـ الدائرة».

4 ـ كانت الاعتبارات الطائفية في الاصل وراء التداول في الشكل الانسب للدائرة الانتخابية، بالنظر الى الموزاييك الطائفي في لبنان وتنوع ولاءاته الطائفية والمناطقية والاقطاعية والعشائرية.

5 ـ كانت هذه الاعتبارات الطائفية عينها وراء التفكير بانشاء «مجلس شيوخ» والاتجاه فعليا نحو اقراره. الا ان ممثلي القوى اللبنانية المتوافقة على «اتفاقات الوفاق الوطني» اخطأت في توقيت انشاء «مجلس الشيوخ» بقدر ما اخطأت في تركها مفهوم «المحافظة ـ الدائرة» عرضة للتجاذبات والاجتهادات والاجتهادات المضادة. ذلك ان هؤلاء الممثلين أقروا انشاء «مجلس الشيوخ» بعد اجراء أول انتخابات عامة لا طائفية في حين ان النجاح في الوصول الى انتخابات عامة لا طائفية يلغي الحاجة الى «مجلس الشيوخ». فالمفترض في هذا المجلس انه سيكون صمام امان ووسيلة عملية لطمأنة الطوائف اللبنانية الى احتفاظها بهويتها وقدرتها على الدفاع عن مصالحها امام «خطر» الذوبان في هيئة تشريعية لا طائفية.

لدى النظر الى المعطيات السابقة الذكر يتضح مدى الحاجة الى تسوية عملية تحافظ على روح «اتفاقات الوفاق الوطني» وتصويب الهنَّات التي شوهتها، وتنطلق من ثابتين اثنين هما: الوفاق والديمقراطية.

الوفاق يقوم، بطبيعة الحال، على المبدأ الأزلي في الحوار السياسي بين اللبنانيين منذ نهاية عهد الانتداب الفرنسي وولادة «الجمهورية الاولى» عام 1943.. ألا وهو طمأنة المسيحيين وإنصاف المسلمين.

فالمسيحيون، الذين هم أقلية في العالم العربي، كانوا وما زالوا بحاجة للعيش في كيان يطمئنون فيه الى كونهم مواطنين كاملي الحقوق والمواطنية بصرف النظر عن حجمهم العددي، والمسلمون الذين هم شركاء في الكيان الذي انتجه الانتداب الفرنسي لطمأنة المسيحيين يجب ان يعاملوا كمواطنين كاملي الحقوق والمواطنية لا كمواطنين من الدرجة الثانية في وطن مصطنع رسم حدوده الاجنبي.

مبدأ الوفاق يقوم إذاً على ارضاء الجانبين وتبديد مخاوفهما. والمنطق يقول ان تبديد المخاوف الطائفية ـ والفئوية اجمالا ـ يجب ان يبدأ بالاعتراف بوجود الاختلاف. وبعد تثبيت هذا الاعتراف يصبح ممكناً الانتقال الى مناقشة الوسائل الافضل لمعالجته على اساس مبدأ الوفاق.

هنا كان لا بد من البحث في انشاء «مجلس شيوخ» مهمته تبديد المخاوف واحترام الخصوصية الطائفية لكل طائفة.

فكل طائفة في لبنان تتصرف كما لو كانت ولاية اميركية أو المانية، من حيث ان لديها مؤسساتها وقوانين احوالها الشخصية وقياداتها الفئوية ومرجعياتها الدينية الضالعة في لعب الادوار السياسية الحيوية، ناهيك من ان النظام السياسي اللبناني نفسه.. لا يعترف بمواطنية اي لبناني بصفته الشخصية، بل يتعامل معه بصفته الطائفية عند التعيين والترشيح للمناصب. وبناء عليه لا بد من التعامل مع الطوائف اللبنانية كولايات وفي هذه الحالة يجب انشاء مجلس «تعددي» لا «عددي»، مناصفة بين الطوائف المسلمة والمسيحية، يتعامل معها وفق هذا المنظور.. قد يكون له «حق النقض» (الفيتو) أو تتخذ قراراته بأكثرية الثلثين.

بعد هذه الخطوة، المأمول ان تطمئن جميع الطوائف ـ لا سيما الطوائف الصغيرة ـ وتلغي أحلام الهيمنة عند جميع الطوائف ـ طبعاً الطوائف الكبيرة ـ يصبح معقولا انشاء مجلس نواب لا طائفي ينتخب نوابه بصورة ديمقراطية وفق اي نظام انتخابي منصف وعملي. وهذا يعني ان الدائرة الفردية أو الدائرة الاكبر ـ عبر النسبية أو الصوت القابل للترحيل أو تجاوز حاجز الـ 50% (البالوتاج) ـ أو المزج بين هذه الخيارات توافقيا.. بعد الاطمئنان الى مرجعية مجلس الشيوخ كمؤسسة ضامنة للوفاق.

بكلام آخر، مختصر ومفيد، دور مجلس الشيوخ هو صون مبدأ الوفاق، ودور مجلس النواب هو تأكيد الخيار الديمقراطي، تماما كما هي الحال في كل دول العالم المتحضر التي تعتمد على نظام الهيئة التشريعية ذات المجلسين.

ولكن للأسف الامور في لبنان لا تنحو نحو هذا المنطق التنظيمي البسيط. فكثيرون يعتقدون ان وراء الأكمة ما وراءها. ومثلما اخطأ مرّوجو موضوعي «الدائرة الواحدة» و«مجلس الشيوخ» من دون تشاور مسبق على المستوى الوطني.. فجعلوهما مطلبين خاصين لجناح سياسي دون آخر ـ وفي افضل الاحوال «بالون اختبار» مثيراً للهواجس ـ اخطأ متعجلو رد الفعل المعارض في الفصل بين مبدأي الوفاق والديمقراطية.

فالتمثيل البرلماني الصحيح يدعم الديمقراطية ويساعد على تجسيدها. و«الدائرة الواحدة» اذا اعتمد لها التمثيل النسبي تعبّر افضل تعبير عن جوهر الديمقراطية وشموليتها. وكان مضحكا ـ ومؤسفا ـ بالفعل ان يهاجم مشرّعون ونواب وساسة من ذوي المعرفة والخبرة فكرة «الدائرة الواحدة»، حتى وفق التمثيل النسبي، بحجة انها «منافية للديمقراطية وتسعى لتغليب الاكثرية على الاقلية (!!)».

أوليست الديمقراطية تجسيدا لحكم الاكثرية للاقلية في كل مكان من العالم؟

لقد كان على هؤلاء احترام منطق الامور، والتحفظ انطلاقا من حماية مبدأ الوفاق لا التباكي على ديمقراطية لا بد لها من اكثرية واقلية.

الا ان المشكلة الاخطر في حالة كيان طائفي جامد ان الاكثرية والاقلية تظلان ثابتتين في اللعب الطائفي الذي تتفاعل ضمنه الحياة السياسية.. وعند هذه النقطة بالذات تهتز الديمقراطية.

ثم بمجرد ان تفقد الاقلية قدرتها على التحول الى الاكثرية في يوم من الايام ضمن اصول اللعبة البرلمانية تنتهي الديمقراطية. وبالتالي يصبح ضروريا الاحتكام الى صيغة تمثيلية مختلفة.

خلاصة القول ان ما يحتاجه لبنان الآن هو تدعيم مبدأي الوفاق والديمقراطية اللذين لن يتحقق احدهما بمعزل عن الآخر. ومن الناحية العملية يجب ان يكون التوافق على شروط انشاء «مجلس شيوخ» ذي سلطات فعلية هو الخطوة الأولى. على ان يتبعها انشاء مجلس نواب لا طائفي صحيح التمثيل مهمته ـ تدريجيا ـ تحويل الممارسة السياسية اللبنانية من مجرى الطائفية الى المجرى الحزبي المطلبي الوطني.. الذي وحده سيستطيع انقاذ لبنان من نفسه.