رأفة بمصداقية الزعامية الأحادية

TT

في الرواية الشعبية أن عنترة سُئل يوما: «من عنترك؟» فأجاب ببساطة: «لم أجد من يردعني». واليوم، قد يصح السؤال والجواب معاً على الحالة التي تعيشها الولايات المتحدة في عهد الزعامة الاحادية ـ مع فارق لافت هو ان واشنطن، خلافا لعنترة، تتجنب بنفسها مواجهة القادر على ردعها فتحصر «عنترياتها» بأضعف دول العالم الثالث وافقرها.

زعامة الولايات المتحدة الاحادية فوتت، في مطلع عهد الرئيس جورج بوش، مناسبة الاختبار الحقيقي لطينتها، وذلك في اطار تعاملها مع حادثة إجبار الصينيين لطائرة تجسس اميركية على الهبوط اضطراريا في جزيرة هاينان بعد اصطدامها بمقاتلة صينية تحطمت وقتل طيارها.

آنذاك، وبعد أن طلبت حكومة الصين اعتذارا أميركيا رسميا عن حادث الاصطدام، شخصت أنظار العالم نحو واشنطن لمعرفة الطريقة التي ستتبعها إدارة الرئيس بوش في التعامل مع دولة كبرى تملك ترسانة نووية متقدمة ومقعدا دائما في مجلس الامن.

والنتيجة كانت، بعد ايام من الأخذ والرد الدبلوماسي، أن أعرب الرئيس بوش عن «أسفه الشخصي» لفقد الطيار الصيني وأكد ان البلدين يجب ألا يسمحا لهذا الحادث بأن يوتر العلاقات بينهما... علما بانه لم تكن انقضت اكثر من اسابيع معدودة على انتقاداته المتكررة، في سياق حملته الانتخابية، لمعاملة الرئيس السابق بيل كلينتون للصين كـ«شريك استراتيجي» وتبشيره بان ادارته ستتعامل مع الصين كـ«دولة منافسة».

سواء كان ذلك صدفة أم تخطيطا، توثقت علاقة ادارة الرئيس بوش مع الصين بعد اعرابه عن «اسفه» للحادث وتوثقت ايضا مع الدولة الكبرى الاخرى، روسيا... فلم يبقَ في مواجهة «عنتريات» الادارة الجمهورية سوى أضعف خلق الله وافقرهم.

من نافلة القول ان الولايات المتحدة لن تجد على لائحة اعدائها المعلنين من طرف واحد ـ والمختارين بعناية وتشفٍ في آن واحد ـ دولة واحدة مؤهلة، عسكريا وتقنيا، لان تردعها أو حتى تتحداها. ولكن اللافت في هذه اللائحة انها تشمل دولا متهمة «بتطوير» اسلحة نووية وتخلو من الدول التي «طورت» فعلا اسلحة نووية ـ مثل اسرائيل والهند وباكستان ـ وكأن مبرر العداء الاميركي لهذه الدول هو «تأخرها» في الانضمام الى النادي النووي لحين وصول الادارة الجمهورية الى البيت الابيض.

مع ذلك، يجوز التساؤل: هل يليق بالدولة الاعظم في العالم، وفي عصر زعامتها الاحادية، أن تعتبر دولا من الصف الثاني والثالث، مثل ايران والعراق، وأخيرا لا آخرا، سورية، خطرا «نوويا» يهدد امنها في عقر دارها؟

وحتى في حال التسليم بان الخطرالذي تمثله هذه الانظمة ليس «دونكيشوتيا» أو مضخما لاغراض سياسية داخلية عشية انتخابات الكونغرس الدورية... هل يليق بالدولة التي واجهت التهديد السوفياتي النووي باستراتيجية احتواء اقتصادي وسياسي ناجحة ادت الى اجهاض الامبراطورية السوفياتية من دون طلقة رصاص واحدة، ان تخوض حروبا كلاسيكية مع دولة عالمثالثية يمكن انهاكها سياسيا واقتصاديا الى حد تقويضها.. من دون الحاجة لاراقة نقطة دم واحدة من الجانبين؟

إذا كان المقصود من تهويل واشنطن بخطر بضع دول صغيرة على أمنها هو الضغط على هذه الدول للامتثال بتعليماتها، فان الذهاب الى هذا المدى من التهويل يرتد سلبا على مصداقية عظمة الدولة الاعظم في العالم ويثير تساؤلات حول أهليتها لقيادة عالم اليوم... بهذه الذهنية.

وعلى هذا الصعيد، إذا كان المطلوب أميركيا إزالة «خطر» دولتين أوثلاث من أضعف دول العالم بحرب تحشد لها واشنطن مئات الالاف من الجنود، فقد يكون المطلوب عالميا ـ في ضوء حملة الادارة الجمهورية الاخيرة لتجييش الرأي العام الاميركي لصالح الحرب ـ ان تعود المصداقية الى قراراتها، فالمصداقية، بابسط مقاييسها، اصبحت شرطا لازما لاستمرار واشنطن في تحمل مسؤولياتها الدولية وشرطا ضروريا لكي لا يبقى أسلوب قيادتها لهذا العالم عرضة لتهم الانتقائية في عداواته والانحيازية في مواقفه والازدواجية في مقارباته.