المستر بيرل

TT

يتلقى ابني في سنته الجامعية الاخيرة في كلية العلوم السياسية، دروساً مختارة حول مرحلة سايكس ـ بيكو في اوائل القرن الماضي. ويختلف الاستاذان اللذان يدرسان المادة، في تفسير الهدف النهائي: هل هو عمل مقصود لاقامة مجموعة من الدول الضعيفة، كما اصر احدهما، ام ان الصدف والاهمال لعبا دوراً اساسياً، كما يقول الآخر؟ لذلك هو يريد ان يعرف ما هو شعوري او تفسيري الشخصي اجبته، هناك الثابت والمتحول، فقد وضعت سايكس ـ بيكو في زمن ونحن نعيش في زمن آخر. اننا نحاول ان نفسر، بعد مرور حوالي قرن على الاتفاقية، ما خطر لعقول رجال ومؤسسات وحكومات وعسكريين، كانوا ينظرون الى المنطقة العربية برمتها على انها ضاحية من ضواحي الامبراطوريتين. وبدل ان تستمر بريطانيا وفرنسا في التقاتل حول هذه الضاحية، قررتا الاقتسام. وفي عملية الاقتسام حاول كل فريق ان يخدع الآخر قدر المستطاع. وارسل البريطانيون الى مفاوضة الفرنسي جورج بيكو، رجلاً يجيد الفرنسية يدعى مارك سايكس، من اجل ان يخدره بالتشريفات واللغويات التي يحبها الفرنسيون، وفي الوقت نفسه كان رحالة خبيراً بالشرق وبأهله وبالنفسيات والامزجة السائدة فيه.

على الطاولة امام الرجلين، كان هناك هاجس واحد، هو كيف يرضي كل منهما نفسه وبلده. المنطقة نفسها كانت مجرد احجار شطرنج تحرك في لعبة الهزيمة والانتصار، من دون ان يسأل رأيها في شيء، ومن دون ان يكون رأيها مهماً، ومن دون اعطاء اي اعتبار لمشاعرها واحاسيسها وتطلعاتها.

هذا هو «المتحول»، اما الثابت فإن الذي غاب عن طاولة سايكس ـ بيكو العام 1916 هو الغائب نفسه الآن: صاحب الارض وصاحب القضية وصاحب المستقبل. ونحن نتحدث الآن عن ان ثمة مشاريع جديدة لخرائط سياسية جديدة، وكأننا نحكي عن مسألة تجري في اميركا اللاتينية. جميعنا نعرف ان المصير يتغير وجميعنا نسأل كيف واين وما هي قسمتنا في هذا التغيير.

ولكن الآن ليست هناك طاولة علنية. ليس من قبيل الحياء او الخجل او احتراماً لمشاعر الشعوب، بل لأن هذه طبيعة العمل الخفي في هذه المرحلة المتقدمة من القرن الحالي. والثابت ايضاً ـ والتشديد هنا على كلمة ثابت ـ ان على الطاولة ثلاثة فرقاء: الفيل الاميركي، الذي اذا وضع ميسمه على الخريطة غطتها كلها. والثعلب الاسرائيلي، الذي يصرف الوقت في الايحاء للفيل بأن ما يقرره هو فعلاً قراره ومصلحته وليس رغبة الثعلب ومصالحه وسبل حمايته. وهناك اخيراً على طرف الطاولة الغزال او «البامبي» البريطاني، الذي يدرك انه لم يبق له من سمات وصفات الدولة الكبرى سوى حضوره في الشرق الأوسط. ولذلك يلحق بالفيل اينما ذهب. ويتظاهر بأن الثعلب غير موجود، لكي لا يثيره او يثير الفيل.

كلما حرك الفيل نفسه في الغرفة واهتزت اوراق الخريطة، ذكَّره الثعلب بالقواعد التي يجب الا ينساها: ليس هناك فلسطين، بل اسرائيل. وليس هناك الاردن بل فلسطين. وليس هناك العراق بل الدولة الهاشمية، اما غرفة العمليات فهي طبعاً في البنتاغون والقلم الاحمر يحمله المستر ريتشارد بيرل. ومعه بضعة اقلام اخرى.