سلوكيات من زجاج

TT

من الأشياء القليلة جدا المتفق حولها دون أي خلاف يذكر، أن الفعل السياسي يمثل مركز مختلف الأفعال المسيرة والمتحكمة في مصائر الشعوب. لذلك ظل الفاعل السياسي النجم الأول والدائم، في جميع الأنظمة، سواء الليبرالية أو الاشتراكية. وقد بوأت مختلف الثقافات السياسية، الفاعل السياسي، منزلة الراعي ومرتبة الإمارة، ومنحته تاج الملوكية. واعتبر العقل السياسي العربي مثلا، أن الفاعل السياسي يلعب دورا مطلقا.

كل هذا التاريخ المجيد للفاعل السياسي فوق هذه الأرض، أتاح له قائمة طويلة من الصلاحيات تختلف في حجمها من ثقافة سياسية إلى أخرى، إلا أنها تشترك جميعها في قيمة الوهج الذي ينشره الفاعل السياسي أينما حل ومتى طل.

والمتأمل في التطورات الحاصلة في مسار الثقافات السياسية، يرى أنها اكتوت بنار الحداثة، وتشعبت بفكر حقوق الإنسان، ولعل فلاسفة التنوير، ومنهم جان جاك روسو صاحب «العقد الاجتماعي»، يمثلون أصحاب الفضل الأكبر على ما عاشته الثقافة السياسية من منعرجات حاسمة، أخرجت الفعل السياسي من براثن مزاج الفاعل السياسي وشطحاته، وأدخلته مرحلة جديدة، هي مرحلة العقد الذي يوضح كل صغيرة وكل كبيرة، ويتعامل مع الفاعل السياسي كفاعل في خدمة الشعب والمواطنين.

ومثل هذه المنعرجات الخطيرة والحاسمة، كانت جميعها لصالح المواطن، الذي وجد نفسه في مناخ يسعى إلى تعزيز حقوقه، والقطع مع ماضي القطيع والرعية والعهود المظلمة التي عاشها الإنسان الأوروبي. ونظرا إلى أن الأفعال السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية تحكمها علاقة جدلية، فان الانتصارات الفكرية، التي حققتها الثقافة السياسية، تسربت عن طريق العدوى المفرحة إلى باقي الأفعال الأخرى، الشيء الذي قاد أوروبا إلى البناء، وإلى تصدير ثقافة تفرعت منها «الثقافة السيدة» التي تصول وتجول في أحلام الشعوب ومصائرها.

ولكن في مقابل كل هذه الحركية ذات الخط التطوري، التي طرأت على الثقافات السياسية المسيطرة على العالم، ماذا حصل في فضاء الثقافة السياسية العربية، أي هل تمكن الفعل السياسي العربي من مراجعة محدداته، وصياغة تجليات جديدة تتماشى وروح العصر وتعلن وفاءها لأنموذجها الخاص في إنتاج الفعل السياسي؟ ثم ما هو الوضع الصحي للأفعال الأخرى المحيطة بالفعل السياسي مدار حديثنا؟

ندرك جيدا أن الدول العربية إبان فترة الاستقلالات، التي تزامنت مع الخمسينات، وفي بعض الأقطار، مع بداية الستينات، ارتمت ارتماء المنبهر والمجبر في تلابيب الحداثة السياسية، وأعلنت وعدها بالمضي خطوة خطوة نحو الديمقراطية، والاستجابة لشروط المواطنة الحقيقية. إلا أن ما آلت إليه سياسة الخطوة خطوة، وما نشاهده اليوم من انكسارات وإحراجات ومطيات وفضائح وذل، يؤكد بأن السياسة التي تم اتباعها من أجل تطبيق مبادئ الحداثة السياسية، لم تكن بالسياسة الصادقة ولا بالسياسة الجادة ولا بالسياسة الواعية، لا سيما أن المخيال السياسي العربي هو الذي بقي يحرك العقل السياسي العربي ويستبد بالفاعل السياسي، الشيء الذي جعل من اللاوعي ومحدداته الماضية تستحكم في سلوكيات الفاعل السياسي العربي.

ويبدو أن المأزق الذي عاشه العقل السياسي العربي، طيلة نصف قرن هو مأزق أدت إليه حالات التفكير السياسي الضيقة، حيث أنه، بالرغم من الإعلان عن مشروع القومية العربية، إلا أن الواقع عكس توجها قطريا ضيقا، يستجيب لأنانية الفاعل السياسي العربي العاجز عن استيعاب مشاركة فاعلين سياسيين آخرين له في سياسة نفس البيت.

ومع أنه تم إحداث نمط إداري يضاهي، في الشكل، الإدارة والمؤسسة الغربيتين، وانتهج القضاء مرجعية من نوعية أخرى تجاوزت القضاء الشرعي، فإن دار لقمان بقيت على حالها، ولم يتغير إلا اللباس، بينما الجسد الذي يشكل بيت القصيد لم يتخط تضاريسه القديمة، بل أن المناطق التي شملتها الحداثة المستوردة، هي المناطق ذات الصحة الجيدة، والتي لا تشكو من علل خطيرة، بينما المنطقة التي يقيم فيها السرطان الخبيث بقيت ممنوعة من الحداثة السياسية.

وقد توقف محللون سياسيون عدة، عند معطى الانفصام الذي يميز الفعل السياسي العربي، فهو يستبطن غير ما يعلن، بالإضافة إلى أن الاختراقات الحاصلة تتضارب كليا مع القوانين الدستورية، فتكون النتيجة سيطرة محددات الفعل السياسي العربي القديمة على مشهد الأفعال السياسية، ويتم تخطي شروط العقد الاجتماعي وتجاوز أكثر بنوده خطورة، وهو ما يفيد بأن هاجس الفاعل السياسي العربي يتمثل في البقاء في دائرة الفعل السياسي مدى الحياة، مع ابتكار ثغرات قانونية كي تتسلل منها بقية نسلهم، إلى درجة أن شرط تطبيق الديمقراطية اصبح مرتبطا بعقم الفاعل السياسي، إذ أنه في تلك الحالة فقط نطمئن على حرمة الدستور، ونقضي على تخلفه الواقع والمنتظر. هذا بالإضافة، إلى أن هذا التأرجح الذي يعيشه الفعل السياسي العربي المصاب بتدهور صحي مستمر، أثر على بقية الأفعال الأخرى، التي مستها الحداثة في العمق، وحصلت تصادمات كثيرة ودامية، بين الاقتصادي والفاعل السياسي، وبين المواطن والفاعل السياسي، وبين المثقف والفاعل السياسي، الشيء الذي جعل مختلف القراءات تشير إلى حيوية المجتمعات العربية بعد أن طهرها التعليم وتحسن الوضع الصحي وارتقت العلاقات الاجتماعية واتسع حضور الفرد، في إطار المجموعة المنتسبة إلى ثقافة الجماعة.

وإلى جانب الفشل الكبير في استيراد الحداثة السياسية، إذ أن هضمها لم يتم، وحافظت المعدة العربية على ما تعودت على هضمه، نرى أن الفاعلين السياسيين العرب يقاطعون كل الحركات ذات الصلة بنموذج الإسلام السياسي ورؤيته لمشروع الدولة. ويعكس هذا، في الحقيقة، غيبوبة الفعل السياسي العربي وتأرجحه المرضي، إذ أن هذا الفعل عاجز عن تطبيق حداثة سياسية حقيقية، وخائف من التعاطي مع مرجعيته الثقافية الإسلامية الخاصة، لذلك فان الحديث عن الوضع العربي اليوم تسوده حالة تلعثم قصوى، وتهرب كل الكلمات القائمة المعنى، وتنتهي بنا الغيبوبة إلى شكل دولة لا تشبه أي نموذج من نماذج الدول المصاغة، كأننا تعودنا إنتاج كل ما هو هجين والإقامة في المنعطف، حيث كل إمكانيات التصادم واردة، وكل محاولات الانعراج إلى اليمين أو اليسار مسدودة، بل حتى أفعالنا وقراراتنا، تصبح سلوكيات من زجاج تحرك في الذاكرة صور الانكسار والتهشم. وساعتها فقط سنعرف لماذا نحن مستهدفون، ولماذا سهل جدا استهدافنا والإطاحة بنا ورمينا بالحجارة غير الكريمة بالمرة.