«بارانويا» 11 سبتمبر

TT

حدثني صديق، فقال: كنت اطمئن هاتفيا من لندن على ولدي المقيم مع اسرته في مدينة اوروبية اخرى، فاذا به يخبرني انه قابل شخصا زائرا من دولة عربية، وانه سيحمّله رسالة وبعض صور اطفاله الى اقارب لنا في تلك الدولة، ووجدت نفسي ارد فورا، محذرا ورافضا ان يفعل ذلك. عندها سأل ابني باستغراب: لماذا؟ فأجبت: لأن البريد موجود، لماذا لا تستخدم البريد فلا تزعج الناس. اجاب: ليس في الأمر اي ازعاج، الرجل ابدى استعداده. فقلت بشيء من الحسم: الرجل مشكور، ولكن عليك بالبريد. لكنه ألح: لماذا، ما المشكلة؟ هنا اجبت بحزم اردته واضحا في نبرة صوتي: لأننا لا نعرف من هو هذا الشخص معرفة كافية، افترض انه تعرض للتوقيف والاستجواب في مطار ما، وتبين انه يحمل رسالتك وصور اطفالك، ستصبح جزءا من قصته، ومن «البروفايل» الذي سيوضع له، وقد تطلب للسؤال والجواب، بل والاقارب الموجهة اليهم الرسالة ايضا ربما يتعرضون لمتاعب، كل هذا ربما يحدث لأنك كسول ولا تريد الذهاب الى مركز البريد.

واصل صديقي: يبدو ان كلمة «الكسل» اتاحت للولد فرصة شن هجوم معاكس، فقال بثقة واطمئنان: لكن الزائر الذي اتحدث عنه ليس أي شخص، لقد كان امامنا في صلاة الجمعة.

قلت للصديق: لقد افحمك، من المؤكد انك استسلمت.

لدهشتي، رد فورا: كلا، اطلاقا، بل اجبت بلا تردد وبحزم اكثر وضوحا: ليكن اماما، ليكن طيارا، طبيبا، صحافيا، او حتى ضابط شرطة، ما يعنيني انك لا تعرفه من قبل، ولا تعرف من يعرفه، استخدم البريد ولا تحمّل ابدا من لا تعرفه رسالة منك الى أي احد، اننا نمر بزمن صعب والحذر واجب.

قلت: وهل اقتنع؟

اجاب: نعم، ولكن بعد جدل انتهى بوعد منه ان يستخدم البريد شرط ألا اغضب اذا اعتبرني من الذين اصابتهم «بارانويا» 11 سبتمبر.

قلت: طبعا رفضت، ولعلك نهرته غاضبا محتجا؟

قال: ابدا، وافقت، فالصفقة بدت مريحة جدا لي، اقبل اعتباري ممن اصابتهم «بارانويا» تلك الفاجعة مقابل ان انام مطمئنا ان ابني لن يسلم رقبته الى المجهول.

انفضت الجلسة لأجد نفسي افكر في موقف صديقي مع ابنه، ثم في حالنا عموما منذ تلك الواقعة، وفي ما فرضته من واقع مغاير ووقائع جديدة في معظم انحاء العالم. الواقع يقول ان «بارانويا» 11 سبتمبر تصول وتجول، تحكم سياسات حكومات، وتتحكم في تفكير افراد ومؤسسات. خذ اميركا نفسها، انها اول الضحايا. الاعراض كثيرة، تحتاج الى كتب لعرضها وتحليلها، اما الشواهد فحدث ولا حرج. احدث المخاوف الاميركية، ولا نقول اخرها، هاجس ان يكون القناص الذي دوّخ الشرطة من جماعة اسامة بن لادن. انهم يوحون لهم احيانا بأفكار مجانية، ومن يتأمل في ما يقولونه عن «القاعدة» يشعر انها غلبت في تخويفها لهم الاتحاد السوفياتي في اوج قوته.

لم يبق الا ان يعلنوا ان «القاعدة» تخبىء في مكان ما قنبلة نووية، او اكثر، وأن المسألة ليست ما اذا كانت ستستخدمها، بل متى واين تستخدمها؟

اما خارج اميركا، فان «بارانويا» 11 سبتمبر توتر اعصاب اصدقاء اميركا وخصومها على السواء. كل عواصم الدنيا مستنفرة امنيا، او هي على الأقل زادت درجة الاستعداد. شركات الطيران تسمّر ابواب قمرات القيادة بأغلظ المسامير، فيأتيها من يهرب المتفجرات في حذائه، ربما يظهر غدا من يحاول تسريب مادة «سيمتكس» الى اطباق الطعام لتنفجر لحظة اطعام المسافرين الجائعين. البنوك صارت تدقق اكثر في هويتك وهوية من تحوّل اليه اكثر من مائة دولار. كان هناك مسلمون كثيرون يسارعون في شهر رمضان الى التبرع لجمعيات اسلامية خيرية، صاروا اليوم يهربون منها ويوزعون صدقاتهم وزكواتهم نقدا او عبر عائلاتهم واصدقائهم. الفضائيات العربية والعالمية مهووسة ايضا، لكن اسوأ بضاعتها المصابة بلوثة «بارانويا» 11 سبتمبر هي تلك التشنجات الصادرة عن موهومين يبيعون اوهاما خلاصتها ان تلك الفاجعة هي بداية الانتصار على غطرسة اميركا وصلفها. لكن المشكلة ليست في هؤلاء المدّعين، بل هي في من يدعي ان «الجمهور عاوز كده»، اذا كان هذا صحيحا، فذلك يعني انه جمهور يحب النوم في عسل «بارانويا» الوهم، ويتلذذ بخداع الذات، وهكذا جمهور يناسبه هكذا متشنجون.

أرأيت يا صديقي، قل لولدك انها «بارانويا» اصابت العالم كله، ولعل الآتي أعظم.