العفو

TT

لا يمكن الا ان نرى شيئاً ايجابياً، كما قال اللواء وفيق السامرائي، في خطوة الافراج عن السجناء السياسيين (والجنائيين) في العراق، وفي العفو عن الذين في الخارج. ما اجمل حياة الحرية التي عاد اليها هؤلاء الرجال الذين لا نعرف اعدادهم. فمن الأسرار الكبرى في الدولة العربية الكبرى، مجموع الاعداد التي تقبع في سجونها. وهو مجموع لا يعرف ابداً، لانه غير خاضع لأي عملية حسابية. ففي كل مناسبة قومية او وطنية سعيدة يصار الى الافراج عن الآلاف من السجناء. وعندما تقرأ رقم الافراج تعرف فقط عدد المتبقين.

والعفو ـ مثل السجون ـ ليس مسألة قضائية، اذ بما ان الحكم في العالم العربي غضب اعلى فان السجن ابتهاج. وهذا قرار يتخذه القائد وحده: إما تقديرا لمبادرة قام بها الشعب حيال زعيمه، كما حدث في مسألة الاقتراع المطلق في العراق، وإما بمبادرة من القائد حيال الشعب، كما فعل العقيد معمر القذافي عندما هاجم احد السجون بالجرافات وخلفه احدى اللجان الشعبية، التي لعلها لجنة العدل. وعندما تفتح دولة ابواب السجون ومخازن الاسلحة امام المفتشين فماذا يبقى؟

الواقع ان العفو العام، من حيث المبدأ، يجب ان يرفق بنوع من الحماية الخاصة. فقد يحدث ان ينتقم بعض الاهل الغاضبين من ابنائهم، كما جرى لصهري الرئيس صدام حسين، اللذين غفرت لهما الدولة خطيئة الخروج على الولاء، لكن عشيرتهما رفضت ان تسامحهما على الزلة الكبرى. فلما عادا من رحلة التمرد، الى حضن الارض الأم، كان العقاب العائلي لهما بالمرصاد، وتأخرت شرطة النجدة. زحمة سير. كل الدنيا فيها سجون. وفي اميركا وحدها مليونا سجين. ولم يعد في امكان الدول ان تواجه ظاهرة الجريمة، ولذا اخذت تسلم ادارة السجون الى الشركات الخاصة. وهي فكرة اميركية مثل جميع افكار التعليب الاخرى، فأين المشكلة اذاً؟ المشكلة هي حيث تكون هناك سجون ولا تكون هناك محاكم او لا يكون هناك حق بالمراجعة او بالاستئناف او بمقابلة المحامين. المشكلة حين يكون السجن «غوانتنامو» اخرى. او حيث يكون هو الحل الوحيد وهو الحل الاسهل وهو دار اللاعودة ايضاً.

سوف يخرج السجناء في العراق ليجدوا ان اهلهم لا يزالون يعيشون من دون «دش» يحمل اليهم شيئاً عن العالم الخارجي. وان بغداد لا تزال من دون صحف اهلية او مجلات، في حين انها العاصمة الاكثر قراءة في العالم العربي. والحرية مولودة كما قال الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، لكن غيابها الطويل ينسي اصحابها واهلها ممارسة ذلك الحق المقدس. وربما يكون الاحرار الجدد اسعد حالاً من دون صحون فضائية، شرط ان يكون ذلك بخيارهم، كما هو حالي، وليس بخيار او امر مدير الشرطة. وبالنسبة اليَّ فقد حذفت جزءاً مهماً من ضياع الوقت: لا نشرات اخبار ولا برامج ولا تلفزيونات الا قليلها واغناها. وما كنت اصرفه من الوقت من المشاهدة اضفته الى اوقات المطالعة. فزدت بذلك من المتع وخففت من درجة المسكِّن الذي أتناوله. وحتى الباقي منه لا اقربه عندما اكون خارج بيروت، بعيداً عن السائقين و«الشفيطة» وسائقي البي. ام. العتيقة، الذين هم دوماً في الطريق الى «الفورمولا وان» او في طريق العودة منه. اما هنا فكلما خرجت من المنزل تزودت ما يكفي لتحمل هذا النوع من الغلظاء والفالتين.

ملاحظة: ورد خطأ في مقال امس ان الحربين الاهليتين في لبنان وقعتا 1940 و1960 والواضح انهما 1840 و1860.