بعد خمسين سنة: غسان تويني يتذكر العروبة ويتناسى الأصولية

TT

كنت أعمل في بيروت عام 1965 في صحيفة «اليوم» المسائية. وكانت «اليوم» ملكا لعفيف الطيبي نقيب الصحافة اللبنانية آنذاك. وكنت مرتاحاً للعمل. فقد كان النقيب شديد الحرص على حياده السياسي بحكم منصبه النقابي. وتوفي النقيب وحل محله شقيقه وفيق في ملكية الصحيفة ورئاسة تحريرها. وكان وفيق على ثقافته وحرفته الصحافية قوميا عربيا متحمسا شديد الحب والتعلق بجمال عبد الناصر.

وأذكر ان ميشال ابو جودة رئيس تحرير «النهار» ونجمها اللامع كان في احدى زياراته لصديقه وفيق الطيبي. وكانت الزيارات دائما مجالا واسعا لتبادل الرأي في احداث السياسة. وكان الراحل ابو جودة شديد الاهتمام بمجرى السياسة السورية العاصف. وخطر له ذات يوم أن يعرض عليَّ العمل في «النهار». وكان العرض مباشرا وأمام وفيق الذي أثار العرض امتعاضه، وطلب من ميشال الكف عن الالحاح فيه.

كانت «النهار» آنذاك في قمة حرفتها المهنية وقوتها السياسية وانتشارها الواسع. وكان الصحافيون الداخلون اليها والخارجون منها يباهون بأنهم «تلامذة النهار». وكان العرض مغريا لي باعتباره «امتيازا» لا يحصل عليه بسهولة اي صحافي ومحرر، ولا سيما صحافي سوري مثلي. ولم اكن اعرف ان ميشال مدرك تماما ان الصحافة لا تعرف وطنا وطائفة او انتماء سياسيا، وان قوة الصحيفة في تعدد ولاءات صحافييها وتنوع مصادر اخبارهم، وهي ليست سفارة أو قلعة مغلقة على ولاء واحد للمقيمين فيها.

غير اني لذت بالصمت كيلا اجرح شعور وفيق. وكان رحمه الله صديقا ودودا مرهف الحساسية. وكان بامكاني معاودة الاتصال بميشال، لكني ترددت لعدة اسباب. فقد كانت «النهار» تشن حملة شعواء على عبد الناصر وسورية. ولم يكن ايماني بالعروبة يتقدم على ولائي الأول لمهنتي، الا اني كنت اخشى على عملي الآخر في وكالة أنباء تفرض عليَّ العمل متنقلاً بين دمشق وبيروت. ثم اخيرا كان هناك الاعتقاد بأني كسوري يؤثر السلامة، عليه ان يعمل بصمت وهدوء خارج بلده، ولا اقول خارج وطنه. و«النهار» لم تعرف في حياتها الصمت والهدوء.

وهكذا، أضعت فرصة ذهبية للعمل في الصحيفة الاكثر تألقا مهنيا وسياسيا. وحرمت نفسي من المباهاة والتفاخر بـ «شهادة التخرج» من «النهار».

لكن لماذا هذا الحديث اليوم عن الصحافة؟

لأنه حديث عن غسان تويني صاحب «النهار» ورئيس تحريرها لفترة طويلة، بمناسبة صدور الطبعة الجديدة لكتابه «سر المهنة.. وأسرار اخرى». ولماذا حديثي عن علاقتي التي لم تتحقق مع «النهار»؟ لأن حديثي سيكون صريحا، كعادتي، وليس شهادة منحازة «مجروحة» بالانتماء يوما اليه واليها. ثم لماذا غسان بالذات؟ لأنه مع حسنين هيكل آخر جيل من العمالقة الذين صنعوا الصحافة العربية في القرن العشرين.

*

غسان تويني، في كتابه و «نهاره» كاتب عميق التفكير والتحليل الى حد الغموض احيانا. وهو كهيكل مرهق للقارئ، لأنه مثقف وذكي. وقد لا تكون الثقافة ضرورية للصحافي الناجح، لكن عندما تلتقي الثقافة والذكاء في الكاتب الصحافي والسياسي يصبح «خَطِرا» جدا، ولا سيما عندما يكون النظام الذي يتعامل معه أقل ذكاء منه.

النظام اللبناني تعامل مع غسان مدة تزيد عن خمسين سنة. وعندما لم يكن قادرا على فهمه والحد من نفوذه على القراء والساسة، كان يعمد الى اضطهاده. وقد سجن غسان كثيرا، وكان يخرج احيانا من النوم على بساط السجن الى الجلوس على مقعد الوزارة ليغدو اقوى وأقوى سياسياً وصحافياً.

لكن النظام، وبسبب الديمقراطية اللبنانية المحدودة، لم يكن قادرا على الغاء غسان، كما فعل النظام في سورية مع نده أحمد عَسَّهْ، ففي جرة قلم، ألغيت «الرأي العام» عام 1958. ثم الغيت ثانية في عام 1963. وفي كلتا الحالتين كانت الصحيفة مرهقة للنظام وفوق طاقة ذكائه على فهم اقوى صحيفة واذكى صحافي عرفته سورية. وأقول هنا لغسان بعدما تساءل عرضا في كتابه عن أحمد عسه، انه يعيش منزويا صامتا في المغرب الذي استضافه منذ اكثر من ثلاثين سنة، وفي حالة صحية سيئة بعدما تقدم به العمر.

التواضع ضروري للصحافي والكاتب الذكي. وغسان تويني حريص على أن يبدو متواضعا، وهو تواضع الاذكياء الذي لا يتخلى عن الكبرياء: «أرى نجاحي أقل مما يظن أو دون ما أريد». ثم يضيف في موضع آخر: «النهار لم تكن دائما الأولى، أو لم أتمكن من أن أبقيها الأولى دائما». والواقع ان «النهار» كانت وما زالت الأولى في لبنان، وكان نجاح غسان باهرا. فقد سار كهيكل من مجرد صحافي اخباري، الى كاتب سياسي، ثم ارتقى معه ليكون اليوم مفكرا سياسيا بارزا، وهو اقصى ما يريد كاتب صحافي تتويجا لحياته وخاتمة لها.

لكني لا اتفق مع غسان تويني في سوء ظنه بالقارئ. فهو عنده ظالم او جاهل، القارئ قد يكون ظالما عندما لا يتفق مع الكاتب. لكن قارئ غسان بالذات لم يكن جاهلا. وقراؤه في «النهار» من لبنانيين وسوريين كانوا في احيان كثيرة على مستوى ذكائه، وأذكى من النظام في فهم غرضه. هؤلاء القراء هم الذين اكتشفوا غسان كصحافي وكرئيس تحرير وكاتب سياسي، وربما قبل ان يتأكد هو من ثقته بنفسه وموهبته. واللبناني والسوري قارئان سياسيان على مستوى عال لا يتوفر في اي قارئ عربي آخر.

نعم، غسان كاتب مرهق للقارئ، لكنه ليس بممل أو ثقيل الظل. فهو جاد بقدر ما هو ساخر في غير رخص او ابتذال. هو ايضا له اسلوبه الفريد في العرض والتحليل والتشويق الذي يختلف عن اساليب عمالقة المدرسة المصرية في جنوحهم الى الاثارة، باستثناء هيكل.

ومن التشويق عند غسان انه جعل معظم كتابه الضخم حوارا على شكل سؤال وجواب، ولم يتركه ليكون سردا مملا لقارئ عادي لا طاقة له على قراءة كتاب من نحو 600 صفحة. وقد دمج الاسئلة التي وجهت اليه في احاديث صحافية مع اسئلة وجهها هو بذكاء الى «الأنا»، وتستطيع ان تميزها عن غيرها لعمقها وفرادتها المستحيلين على خيال وفكر صحافي عادي.

ما زلت عند رأيي في أن رئيس التحرير الكفء يحيط نفسه بصحافيين اكفاء. فنجاحهم نجاح له ولصحيفته، لولا كفاءة غسان لما سمح لموهبة ميشال ابو جودة ان تتبلور بذلك التألق في «النهار». ولولا ثقة غسان بنفسه لما سمح بأن تستمر «معلمية» لويس الحاج عليه وعلى أجيال متعاقبة من «تلامذة» النهار الى آخر لحظة في حياته.

كان الاحرى بغسان ان يسمي كتابه: «فن المهنة... وفنون اخرى». فليس فيه من الاسرار بقدر ما فيه من خبرة ومعرفة بفن الصحافة وبفنون اخرى كفن السياسة. ومن هنا اهمية الكتاب للقارئ، وللجيل الجديد من الصحافيين ولتلامذة كليات الاعلام الذين يدرسون على اساتذة لم يمارسوا الصحافة، وربما لم يكتبوا تعليقا في حياتهم.

وخدعني غسان الناشر الرابح. فقد ظننت انه سيضيف الى الكتاب في طبعته الاخيرة رأيه صريحا ومطولا في الحالة الاصولية «المزدهرة». لكنه تذكر العروبة بعد خمسين سنة، وتحاشى ان يسمي الأصولية باسمها، ربما مراعاة «للحالة» الشيعية البقاعية والجنوبية. واكتفى في ذكائه اللماح بالنصيحة بعدم الانكفاء الى الماضي وحده، لأن التخلف هو في الظن في «ان الماضي أفضل من الحاضر، والحاضر اسوأ من الماضي».

وبعد، أظلم غسان تويني واظلم نفسي اذا قلت ان هذا كل ما يمكن ان يقال عنه وعن كتابه و«نهاره». وقد سبق لـ «الشرق الأوسط» ان تسامحت معي عندما كتبت دراسات في عدة حلقات أسبوعية عن كل من عباقرة جيله الصحافي. وغسان تويني الصحافي، والكاتب، والمفكر، والسياسي، واللبناني، والطائفي، والليبرالي، والعربي، والاميركي، والانساني... يستحق وقفة متأملة في ثراء هذه الحياة الصاخبة المدهشة.

فإلى الثلاثاء القادم مع غسان تويني ايضا وايضا. وعسى الا يضيق به وبي صدر القارئ وصدر «الشرق الأوسط» معه.