شيراك و«الفالس» الفرنكوفوني

TT

كان على جاك شيراك ان يختار بين «المرجلة» ووقوع «المهزلة» حين جاء الى لبنان لحضور القمة الفرنكوفونية التاسعة. فالاجتماعات الوزارية التي حضّرت للقمة كان فيها من التململ والنقد والاعتراض والتهكم ما ينذر بقرب انفراط العقد ان بقيت هذه الفرنكوفونية محض لقاءات فولكلورية لا تملك سوى حق التصفيق لحياديتها المضجرة.

وكان أطرف المتكلمين واكثرهم صراحة في الاجتماعات التحضيرية، ممثل الوفد النيجيري، الذي بدا غاضباً من الفقر الافريقي، والضعف الفرنكوفوني، والاستغلال الدولي، وآتياً الى قمة الفرصة الاخيرة، وليس عنده ما يخسره، فقال لزملائه المجتمعين: «عليكم ان تغيروا ميثاق الفرنكوفونية، اذا كان اعجز من ان يحقق تطلعاتكم»، ثم ابتسم ساخراً وكأنما شماتة العالم كله قد ارتسمت على وجهه، وأضاف: «نعم، أرفع صوتي واقولها لك بفرنسية بليغة Why not?».

ولا بد ان الوزير النيجيري كان له من المكر والدهاء ما يكفي ليضع اصبعه على المكان الاكثر ايلاماً للفرنكوفونيين المتطرفين الذين يعرفون ان الانجليزية مقتلهم. لكن الوزير النيجيري لم يكن وحيداً، والى جانبه احتج الكاميروني على عقم المنظمة، واعترض السويسري على جمودها، وتحدثت ممثلة افريقيا الوسطى عن قلق بلادها على المستقبل السياسي للفرنكوفونية.

وباختصار فان جاك شيراك وصل الى القمة قبل ان تقوم قيامتها. وكان يشعر، ربما، انه في بيروت، إما ان يدفنها او ان يفلح في اخراجها من غيبوبتها.

واذا صح القول ان بيروت هي غرفة الانعاش التي ضخت الحياة في جسد الفرنكوفونية المتهالك، بفضل شيراك، إن بوصفاته المعنوية السحرية، او مواقفه «العنترية»، ونفتحه الديغولية، فإن الاعلان الذي انتهت اليه القمة في بيروت، لا يشكل عمليا، اكثر من اعادة صياغة لقرارات الامم المتحدة.

وبالتالي لا بد ان نصفق للصحافي الاميركي الذي اطلق على المنظمة الفرنكوفونية اسم «الامم التمحدة Bis»، معتبراً ان الفرنكوفونية ببغاء متنقل، يكرر في العواصم ما يسمعه من المنظمة الدولية.

وهذا ليس تهجماً على الفرنكوفونية، او محاولة لتبخيس قدرها. فقد كان اقرب الى الخيال ان يتجرأ المجتمعون في العاصمة اللبنانية ويقرروا الذهاب الى ابعد من ادانة الارهاب، والتأكيد على ضرورة معالجة اسبابه، كأن يقرورا ضرورة التفريق بين الارهاب التخريبي والنضال التحرري، دفاعاً على الاقل، عن «حزب الله» الذي دعي امينه العام لحضور القمة. وكان من المستبعد ايضاً ان تتمكن 55 دولة مجتمعة، باسم الاخوة اللغوية، من انصاف الفلسطينيين، ولو شفاهياً، بأفضل مما فعل مجلس الأمن.

وبالتالي فان فرنسا تريد ان تلعب دور البطولة وتفوز في السباق من دون ان تخوض جولة واحدة لاختبار قوة عضلاتها. فالفرنكوفونية، يقولون لك: هي مساحة تسامح ووئام، وليست حلبة صراع او مكاناً لشن هجوم على احد، وهو كلام مقبول وواقعي، لولا انه يتناقض مع موجات الحماس الفرنسية التي توحي بأن الطموح ديناصوري بينما تعجز الحركة عن اللحاق بالآمال المرجوة. وهو امر فهمه الفرنسيون العاديون، منذ امد بعيد، لذلك تجد المواطن هناك يحدثك عن هدر للأموال في سبيل حلم فرنكوفوني بائد، بينما ملايين الفرنسيين يبحثون عن فرص عمل، في ظل ازمة اقتصادية تدفع بهم الى طلب تأمين اليومي قبل السعي وراء الطوباوي.

ومع الاعتراف بأن جاك شيراك له طلة وجاهة، وقامة تليق بها الزعامة، الا ان الواقع يقصر عن خدمة ورثة ديغول لسبب يمكن اختصاره بأن لا سلطان لأحفاد بونابرت ما دامت الثروة في قبضة ابناء العم سام.

وبما ان الدول الفرنكوفونية المستضعفة من افريقية وعربية، تصطف بحماسة وراء فرنسا، وتعوِّل على دورها المتمايز، وتنتظر منها ان توصل صوتها المخنوق الى مجلس الامن، على اعتبار ان فرنسا هي الدولة الفرنكوفونية الوحيدة التي تملك حق الفيتو، فالسؤال الأجدى طرحه هو التالي: ما مدى قدرة فرنسا على استخدام هذا الحق بحرية واستقلالية عن الضغوط الاميركية؟ وما القيمة المتبقية لهذا الحق، ما دمنا نجده مرة مخطوفاً، ومرة اسيراً، ودائماً مقيداً بألف قيد وقيد؟

وورطة فرنسا لا تنحصر في حوارها الدولي الذي ما يزال مقنّعاً ومتنكراً خلف امجادها الثقافية والاستعمارية العتيقة، وانما ورطتها الكبرى، هي مع حلفائها الفرنكوفونيين، الذين يشكلون اعداداً بشرية غفيرة لا وزن لها يذكر في الميزان الاقتصادي والصناعي.

واذا استثنينا الدول الاوروبية من العائلة الفرنكوفونية، وقعنا على شعوب اعباؤها تنوء تحتها الجبال. فثمة دول نسبة استخدام الانترنت فيها ما تزال صفراً، اي انها خارج الحراك الفعلي للكوكب. وهناك دول اصبحت عاجزة عن تعليم الفرنسية، رغم المساعدات المعطاة لها، لأن عدد الذين يدخلون المدارس فيها في تناقص حاد. أما الدول الافريقية الفقيرة فتأتي الى رحاب الاجتماعات لتقول لائمة ومتذمرة: «ها نحن فرنكوفونيون فلماذا لا تعطوننا مالاً؟»، فيما يهرع العرب خوفاً من هجمة تقضمهم، بعد ان عجزوا عن استنفار قدراتهم الذاتية، وقرروا الالتجاء الى حمى الفرنكوفونية.

وفي تلك القمة التي جاءت بأرجلها الى وكر دبابير الشرق الاوسط، كان كل يغني، في سره، على ليلاه، باسم «الحوار» و«الثقافة». وكان معبراً ما قاله الرئيس الفرنسي وهو يخاطب الحاضرين: «نحن مختلفون من حيث المصدر والعرق والدين، الا اننا مجتمعون حول مصادفات التاريخ ومخاطره». والمخاطر التي تحدث عنها شيراك، كانت كفيلة بأن تنسف الاولوية اللغوية للفرنسية، والتي على اساس معرفتها او اجادتها، تنضم الدول الى هذه المنظمة، او هكذا كان الامر حتى سنوات قليلة خلت، لنجد بعد ذلك ان الباب قد فتح في بيروت، وقبل قمتها، لدول، بالكاد بضع مئات من ابنائها يتكلمون الفرنسية. ولا تتحرج هذه الدول، في بعض المؤتمرات، من ارسال ممثلين عنها يتحدثون الانجليزية، كما فعلت رومانيا، اثناء اجتماع جوهانسبورغ.

وفهم الظاهر او الباطن الذي تضمره فرنسا، لم يعد المشكلة التي تؤرِّق الزاحفين الى رحاب الفرنكوفونية. بدليل ان دولة مثل الجزائر، لها ماضٍ استعماري قاسٍ وأليم مع اللغة الفرنسية، وافق رئيس جمهوريتها على حضور جلسات قمة بيروت، بعد مقاطعة تاريخية للفرنكوفونية. ففرنسا من الهزال بحيث انها لم تعد تثير حذراً او توحي بخطر، لكنها في المقابل، لا تستطيع ان تشعر حلفاءها الفرنكوفونيين، انهم أغلى الحلفاء على قلبها.

فالجميع يعرف ان الكلام الذي تكرر في قمة بيروت، حول رفض فرنسا لحرب على العراق خارج اطار قرارات الامم المتحدة، قد يذهب هباء الريح، اذا ما قررت اميركا الذهاب الى الحرب غداً، من دون موافقة احد. وعلى الأرجح، فان الفرنسيين سيكونون سعداء لو اصطحبتهم معها، ووعدتهم بقطعة سخية وشهية من «الكاتو». فأهمية قمة بيروت او عدمها، لا تتأتى من الخطابات الرنانة التي توالت خلالها، وانما من صلابة الموقف الفرنسي مستقبلاً او تراخيه امام الإغراء الاميركي. واذا كان البعض قد استعجل امتداح «المراجل» الشيراكية، فالأجدى توخي الحذر، وانتظار مفاجآت القدر.

[email protected]