طرح النموذج الغربي هو الحل

TT

البعض يجد حرجا ممضا حينما يومئ في حديثه او كتاباته الى ظاهرة التحديث وبشكلها (الأوروبي ـ الأمريكي) والتي بالطبع لا يمكن مقارنتها بما يجري في عالمنا العربي اليوم. فظواهر التخلف اصبحت السمة الاساسية لمجتمعاتنا العربية، وقياسا على هذه الحضارة الغربية الطاغية، أو على تاريخ اسلامي ناجز. والبعض الآخر وهم قلة وللأسف الشديد، وهم الذين لا تفقدهم الازمات جادة الصواب وهي صادقة مع الذات وصريحة مع الأنا والآخر، وهذه القلة القليلة لا تجد حرجاً في نمذجة الشأن الغربي كله، وتمثيله بالشأن العربي والاشادة بخصائصه العامة والخاصة ومقابلة هذه الخصائص بمثيلاتها العربية ان وجدت او الاقتراح باستجلابها ان عُدمت، سواء كان هذا تبشيرا في كتابة سيارة أو من خلال دراسة علمية مقارنة، واعتبارها منجزا انسانيا ناجحا متفردا ومتاحا لمن ينشد النهضة والاقلاع، وعلى المستوى الشخصي لا اجد غضاضة في هذا ولا عندما اركض لاهثا وراء هذا الايقاع السريع والمبهر في كل مناحي الحياة، وهي ظاهرة تنسحب على جميع الممارسات العملية والنظرية، الفكرية والمادية، وعلى مستوى الافراد والجماعات، وهي حقيقة مؤرقة يجتهد الخطاب العربي الفاشل في قمعها وطمسها والترويج لنوع من الحيل النفسية والعاطفية، والتي تخفي معها الجانب المسكوت عنه، وهو العجز الشامل عن بلوغ الطموح والتطلعات، وانتقاماً وحقداً من هذا الواقع العربي التعيس. ليس هذا اختزالا لخطاب مكرور مللنا عباراته وبكائياته ولا محاولة لاحياء مشروع النهوض العربي المغتال، ولكنه بالاحرى تركيز على ممارسات تسكن بناها تلافيف اذهاننا، وتسعى نحو توسيع الهوة مع الغرب المتقدم، وتضاعف المشقة دون هوادة او مهادنة، مع الرغبة الملحة في قتاله واعلان الحرب عليه دون سبب معقول او هدف واضح، وهي ممارسات تتجذر باستمرار ودون كلل او ملل. فهل آن الآوان لنتوقف ونتلمس مواضع اقدامنا ونعرف حدود امكاناتنا وحجم اهميتنا المتواضعة وسط هذا العالم، واختيار طريق مغاير لهذا العبث والتدمير الذاتي؟ فمشكلتنا الحقيقية تتمثل في اننا اصبحنا نميل الى اعتبار ان الغرب يصارعنا كحضارة منافسة واصبحنا ننظر من هذه الوجهة المهلكة، وهي لعبة اشبعت الغرور العربي المخدوع والمولع بالاحتراب والمنازلة. فعلينا جميعا تسليط الضوء عليها وتفنيدها وتوضيح المأزق الحرج الذي يربط بيننا وبين مفهومنا المغلوط والذي يشتمل على افكار خاطئة، ولأننا ايضا نرفض وسنظل نرفض أن نموت أو ننتحر جميعاً على الأقل وعلى غرار كارثة الحادي عشر من سبتمبر وسنظل نصر على التمسك بالحياة مهما علا صوت الغلو والارهاب، فنشر ثقافة الموت المجاني يجب ان تتوقف، فقد اصبحت عبثاً محضاً واستهانة بالانسان وكل اشكال الحياة، وبالرغم من ان هذه النقطة الحساسة ليست هي موضوعنا بالصميم ولكنني احببت التأكيد عليها، لأن هناك نزوعا لدى كثير من مثقفينا المغالين في غبطتهم وفرحتهم الساذجة بهذه الفكرة (المودة) وعدم ادراكنا لهذا التوجه التدميري، فالانجراف معه هو الحمق الذي قتل صاحبه، فكارثة الحادي عشر من سبتمبر المشؤوم هي احدى تداعيات او افرازات هذه الفكرة المجنونة ولا ريب. ولنعد لموضوعنا اعلاه، وحتى أكون واضحا اكثر سأقوم بطرح قضية يكابر معظمنا في طرقها وهي الاشادة (بالنموذج وبشكله الغربي) وبالتالي التقابل والتمثيل بكل ما هو حديث وعصري، فالاشادة به ومحاولة التشجيع على استجلابه، لم تصدر الا عن مجموعة من القناعات الصحيحة والتي لا يسع المقام ببسطها، اما لأنها تغمرنا ولا حاجة لذكرها او لبداهتها لنا جميعاً، بمعنى انها لم تصدر من فراغ او انبهار واهتمام شكلي او اعجاب وانطلاق من موقف استلابي واستغرابي كما يحلو للبعض ترديده متخذاً صوراً شتى من الرفض، والنفي الكلي ولكل ما هو غربي، هذه الآراء وغيرها لا يهمها الخلاص من التخلف وتحقيق النهوض وتلمس طريق الاقلاع، وقد بلغ التناقض مداه معهم حينما اخذوا تقنيات الغرب كلها وردوا فكره جملةً وتفصيلاً. فبدون شرطها الثقافي لا امل في نهوض او استنارة او اقلاع، فلا توفيق ولا تلفيق بعد كل تلك التجارب الفاشلة، ولهذا السبب اضطربت مشاريع النهوض في عالمنا العربي ولم تؤت ثماراً مؤكدة، ولا معنى للاسراع في استدراك مللهم وقيمهم الروحية لأنني اعتبر هذا من بدهيات الامور التي لا يجوز التأكيد عليها كل مرة وذلك من باب الثقة بالنفس وبالقيم الراسخة لدينا ولأنه ليس هذا ما نفتقده. ولقد كنت كلفاً بتبرير وجهة نظري لكم وأي الأمثلة اضربها حتى أقرب لكم فكرتي مع ان الخيارات وافرة وفي كل المجالات وعلى كل الاصعدة، الا انني اعتقد ان اكثر الامثلة وضوحاً هو الكيفية التي يعالج بها العقلان العربي والغربي ازماته وكوارثه. والعقل بالتالي هم النخبة المفكرة في المجتمع او كل من يباشر الشأن العام بآلياته المعرفية ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه، بحثاً ودراسة وتحليلاً ونشراً. ولنأخذ النخبة العربية ونلقي نظرة خاطفة على الكيفية التي عالجوا بها هذه الازمة الطارئة على عقلنا العربي وهي كارثة الحادي عشر من سبتمبر. فهذا الكم الهائل من التناول والمتابعة والتعليق والتحليل يقول ان معظمهم لم يشذ عن القاعدة والطريقة المعهودة التي عالجوا بها من قبل ازمة غزو الكويت، وبالتالي ستنسحب هذه التجربة ايضا على ازمتنا القادمة (ازالة نظام صدام وتنظيف العراق) وهي الاخطر والأكبر في تاريخ مآسينا. مع هذه الأزمة سنعيد ونكرر نفس اللوازم العربية من تسطيح وخفة وتعميم سريع واحكام يقينية ووفق ادبيات متهافتة كنظرية المؤامرة. والقصد، انه من غير المقبول عقلاً ومنطقاً الاستمرار والاصرار على اجترار تلك الخرافات والاوهام وفي ظل هذه الثورة غير المسبوقة في تبادل المعلومة وتعاطي الخبر، ولكنه فقدان التوازن وعدم السيطرة على فضاء مفتوح، لا يتعامل مع التعتيم والكذب، اذ لا شيء يعتم الرؤية ويوقع في التيه مثل تزييف الحقائق والاستمرار في تكريسها بالرغم من أن الناس لفظوها وعزفوا عن ترديدها لا بل ولم يخفوا سخريتهم منها، لكننا فيما يبدو ازاء خطاب وفكر واحد لا يستفيد من تجاربه واخطائه وهو اعجز من ان يولد حقيقة او يحرر عقلا من اوهامه، فأصحابه دائماً في موقف شهود على تهافتهم وقصر نظرهم، يتراقصون بلا حياء ولا خجل بين المواقف وفي كل الظروف، والضحية هو الفرد العربي. اعرف ان المواطن العربي ما زال لم يملك بعد شخصية بكيفية كاملة حتى يفرض على هذا الخطاب وجهة نظره ورؤيته للحدث وبشكل مستقل، بل هذا الخطاب هو الذي يفرض عليه حقيقته باطلاق، لكن قد يستطيع العقل العربي التخلص من منهجيته المؤدلجة لو تجنب عدم خلط الذات بالموضوع ونبذ الانطباعات الشخصية كرأي علمي يفرضه وله مصداقيته وتقديم النتائج دون انتقائية، وكل هذا بالامكان اكتسابه، لو فقط امعن النظر في الكيفية التي يمارس بها المحلل الغربي استنارته وهو التحليل الصارم والتقصي الموضوعي، بعيداً عن الادلجة، وهي الحيوية التي خلقها وتوسع بها حتى اصبحت نمط حياة وتفكير وسلوك، فهو يمارس النقد والكتابة والتحليل دون هوادة في تقبل النتائج، وبذا يستبعد هوى العقل وضعف العاطفة وخداع الخطابات، بمعنى هو لا يؤدلج مناهج ومقدمات وطريقة تفكيره، وبالتالي هو يمارس عقلانيته بطرد اللامعقول في تقبل النتائج. هكذا هو النموذج الذي نشيد به ونتمناه ولا يعني هذا ان لا وجود للشواذ فالقاعدة قد تكسر احياناً، فدون هذا المنهج لن يفوز العربي بالحقيقة ولن يصوغ النظريات، فمواصلة السير بنفس المعطيات والمفاهيم والرؤى لهذا الخطاب واعادة انتاج شعاراته الديماغوجية ومع كل ازمة ونازلة تصيبنا، هي الهزيمة والعجز بعينه، لذا علينا القطيعة مع هذا النهج والمنهج وتصفيته من اذهاننا وضرورة التفاعل مع واقعنا بكل محاسنه ومساوئه. وليس صعباً ان نغير ونتغير وليس عيباً ان نستفيد من الغرب وننتفع من كل منجزاته ورؤاه، فهو بحق النموذج المطروح الذي اثبتت انظمته وخطاباته العقلانية احترام الفرد الانسان وحقوقه. فالخروج من المأزق يتطلب ضرورات ملحة، منها التنازل عن هذه العجرفة والاعتراف بالخطأ واظهار لاعقلانية الخطابات كلها وعلى رأسها الخطاب الاعلامي العربي المباشر، ونقد هذا البعد عن روح العصر وتجلياته او محاولة فصل العربي عن عالمه وواقعه، واحترام العقل كملكة تحليل وفحص ونقد وابراز العلاقات والاسباب والعلل، بكل شفافية ووضوح واعلانها على الملأ واخذها كنتائج محايدة مهما كانت صادمة للرغبات او غير موافقة للهوى وجعلها نهجاً وطريقة عمل مفروغ منها، وحتى تصبح عادة ونمط حياة وتفكير. ان ما نطارحه ونتذمر منه اليوم لا يبدو واضحاً الا عندما نمر بأزمة ما ونفشل بالخروج منها، فهل ادركنا حقاً تواضعنا في التعامل مع ازماتنا السابقة والمتتالية؟ وهل اعطتنا تجاربنا السلبية مع تلك الازمات وفشلنا في طريقة ادارتها شيئاً من الاعتراف بأن هناك خطأ؟ وهل لدينا الشجاعة والقدرة على بسط سؤال كبير بمثل ما هو الخطأ وما الذي يجب تغييره؟

بالضبط هذا ما يجري اليوم في الغرب بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر.

[email protected] *