أين المعارضون العراقيون في الخارج؟

TT

هم أزيد من أربعة ملايين حسب العديد من الاحصائيات التي اجريت خلال الاعوام القليلة الماضية. وهم متوزعون على كامل الخارطة الارضية. تجدهم في بلدان الخليج وفي تركيا وايران وسوريا ولبنان والاردن واليمن وبلدان شمال افريقيا، وفي اوروبا وكندا والولايات المتحدة الامريكية واستراليا وغيرها. وهم يكونون «الدياسبورا» الاهم والاكثر حجما في الوقت الراهن متجاوزين في ذلك شعوبا بلا ارض مثل الفلسطينيين. وهم من أجناس واديان مختلفة. بينهم سنيون وشيعة ومسيحيون وأكراد وأرمن وكلدانيون. وهم ينتسبون الى جميع الفئات الاجتماعية في العراق. فهناك العمال البسطاء والموظفون والجنود والضباط ورجال الشرطة والجمارك والاطباء والممرضون والمهندسون في مختلف القطاعات، والمعماريون والشعراء والادباء والصحافيون والباحثون والاكاديميون واصحاب الاختصاص في العديد من المجالات العلمية. وجميعهم اجبروا لاسباب مختلفة على ترك وطنهم العراق. وأغلبيتهم الساحقة هي من ضحايا سياسات صدام حسين الذي يزداد بطشا وجورا يوما بعد يوم، محولا العراق الى مختبر لافعاله الدنيئة، وجرائمه البشعة.

وحتى بداية السبعينات، لم يكن العراقيون يميلون الى الهجرة والعيش في المنافي مثلما هو حال جيرانهم «الشوام». وعرف عنهم دائما تشبثهم بأرضهم، والعيش في بلادهم حتى وان جارت عليهم. غير ان صدام حسين شرع منذ أواسط السبعينات في انتهاج سياسة تستهدف «تفريغ» البلاد من أهلها حتى يحقق طموحاته. طموحات الطاغية العنيد، والمستبد الجائر. وفي هذه المرحلة، كان الضحايا من الشيوعيين، ومن الاحزاب الأخرى التي كانت ضمن الجبهة الوطنية. وبعد اندلاع الحرب الايرانية ـ العراقية، تزايد عدد المهاجرين وتعددت الفئات الاجتماعية التي ينتسبون اليها. والآن هم ليسوا من الكوادر الحزبية، ولا من انصار الايديولوجيات المعادية لحزب البعث، وانما هم في غالبيتهم شبان فارون من جبهات القتال، ومن الحرب التي طال أمدها حتى انها حوّلت العراق الغني والقوي الى بلد واهن القوى، بالكاد يقدر على الوقوف على قدميه. ثم جاءت الكارثة الاخرى، اعني بذلك غزو الكويت، فبلغت المأساة ذروتها خصوصا بعد موافقة الامم المتحدة على قرار الحصار، واصبح العراقيون يفرون بأعداد وفيرة مفضلين الموت غرقا في البحر، أو مجمدين في شاحنات لنقل البضائع على البقاء في بلادهم التي لم يعد حليبها يغذي غير مجموعة التكريتيين بقيادة صدام حسين وابنيه قصي وعدي...

والآن، يواجه العراق كارثة أخرى. فالولايات المتحدة، بمساندة بريطانيا، مصرّة على شن حرب ضد نظام صدام حسين. وقد بدأت بحشد قوات عسكرية ضخمة هنا وهناك لهذه الحرب التي بدأ الامريكيون، خصوصا الصقور منهم، يدقون طبولها كل صباح وكل مساء. والدول المجاورة للعراق تنظر الى هذه التطورات الدراماتيكية الجديدة بقلق بالغ مظهرة خشية كبيرة ازاء النتائج التي سوف تنجر عن هذه الحرب المحتملة. والتي قد تصيب مصالحها القريبة والبعيدة بأضرار فادحة، بل وقد تقوض وجودها أصلا، حتى الدول البعيدة عن العراق تتابع الاحداث لحظة بلحظة، وساعة بساعة، ذلك انها تشعر ان هناك مخاطر كثيرة قد بدأت تلوح في الأفق، وعليها ان تكون على أتم استعداد لمواجهتها، والا فإن العاصفة الهائلة التي بدأ يسمع دويها قد تسبب لها قلاقل وهزات لا تحمد عقباها. وفي كبريات العواصم والمدن الاوروبية والامريكية، انتظمت وتنتظم مظاهرات صاخبة يسير فيها مئات الآلاف من الناس محذرين من مخاطر الحرب المحتملة ضد العراق.. الصامتون الوحيدون هم هؤلاء الاربعة ملايين عراقي الذين يعيشون في الشتات. فلم نسمع انهم اجتمعوا أو تشاوروا حتى في تلك الاماكن التي يشكلون فيها جاليات قوية، أو تشاوروا بخصوص ما يتهدد بلادهم من مخاطر جسيمة، أو بخصوص مصير بلادهم والوضع الذي سيكون في حال انهيار النظام البغيض الذين كانوا من ضحاياه على جميع الاصعدة، وكأن كل هذا لا يعنيهم. حتى المجلس الوطني للمعارضة العراقية يبدو غير معني بهم، وهو يتحرك ويتصرف كما لو انهم ليسوا موجودين وكما لو ان مستقبل العراق. يمكن ان يرسم بدونهم. وكانت جريدة «لوموند» الفرنسية على حق عندما وصفتهم بأنهم «مستسلمون لوضعهم المأساوي استسلاما تاما». فكما لو انهم يعتقدون ان نظام صدام حسين الذي ارعبهم في الماضي، وحرمهم من العيش في وطنهم، لن يزول ابدا، وهو باق الى يوم الدين!

منذ انهيار النظام الملكي عام 1958، والعراق لم يعرف الهدوء والاستقرار، ولم ينعم بالسلام والأمن، وهذا ما افقده الكثير من قدراته في جميع المجالات، وجعله مهيض الجناح، عاجزا عن التقدم خطوة الى الامام، وعلى العراقيين الذين يعيشون في الشتات ان يدركوا انه آن الأوان لانتقال بلادهم من الكوارث والمصائب التي ضربتها على مدى الاربعة عقود الماضية. ولن يكون ذلك ممكنا الا بالتفاهم والتشاور في ما بينهم، وباحترام كل فئة للأخرى، وبتقبل كل واحدة من هذه الفئات للتعددية الدينية والثقافية والاثنية لبلادهم. هذه التعددية التي لا بد ان تكون مصدر اثراء، وليست مصدر تفرقة وتنابذ واقتتال كما كان الحال في الماضي القريب. وعلى عراقيي الشتات ايضا ان يستفيدوا من تجربة العيش في بلدان ديمقراطية لكي يضعوا حدا لثقافة العنف التي عرفتها بلادهم بعد انهيار النظام الملكي، والتي اغرقتها في الدم والجريمة. فوحده التضامن والتآزر في ما بينهم، واحترام كل واحد منهم للآخر، هو القادر وحده على رسم صورة جديدة ومشرقة لبلدهم الجميل والكبير في نفس الوقت.