إصلاح الداخل قبل تعرية مشاكل الآخر

TT

الشعوب والانظمة الحاكمة في عالمنا العربي، معادلة صعبة في قبول نتائجها، ومعقدة في بنائها، ومستحيلة في تفكيكها ان اردنا الموضوعية، الا انه بالامكان الحفر في اعماق تلك العلاقة (اريكولوجياً) للوصول الى العلة ومن ثم ربطها بالمعلول.

على ان المقام هنا، ليس لتفسير الاشكالية وتداعياتها، فهي لم تعد تخفى على احد، بقدر ما انه محاولة لمعرفة كيفية خلق التوازن بين سلطوية النظام ورغبات واحتياجات الشعوب (بمفهومها الشامل). فالحاجة قد تكون سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وبالتالي فهي تتنوع في الاهمية والمكانة، بيد انه كلما خرجت (اي الحاجة) من (الخاص) الى (العام) او من (الفردي) الى (المجموع)، بمعنى ان اصبح همها وشغلها يدور حول (المجتمع) لا الفرد، اي لا تكون مرتبطة بمصلحة ذاتية آنية، فانها تضيف لنفسها حضورا مهما، كما انها ستكون في مكانة اعلى، طالما انسلخت من الفئوية والتحزبية والشعوبية، وارتهنت الى المبادئ والمفاهيم الاساسية، دون الدخول في التفاصيل والماديات التي لا تؤدي الا للمهاترات والمساجلات والسقوط في نهاية المطاف.

ولو لم تكن لمفاهيم حقوق الانسان ـ على سبيل المثال ـ تلك الرؤية الشمولية الجمعية، وذلك الرقي في صيانة حقوق هذا الانسان وتكريس حماية هذا الشعار، بالفعل لا بالقول فقط، وذلك عن طريق مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية المستقلة، فانه لما كان له هذا الحضور الطاغي في كل المنتديات والملتقيات، ولا بات من اجندة الحكومات الغربية التي تبحث عن صوت الناخب.

ولعل من يتأمل العولمة وافرازاتها، يلحظ انها قد بدأت بتهشيم المسلمات واليقينيات، واسقطت تسلط المرجعية (الجامدة) وهيمنة المعهود والتقليدي والمعتاد، مكرسة مصطلحات ومفردات لم تلبث ان اخذت مكانا فسيحا في العالم، مبلورة مفاهيم وهي بمثابة دعوة الى التجديد والتحديث والتعصرن بما يؤدي الى استقلالية الانسان وكرامة ذاته.

نعم.. الخطاب العولمي (الكوني) يحقق ذلك التوازن الذي تنشده الشعوب، لا سيما العربية منها، فاللغة الجديدة تحاول قدر الاماكن تخفيف نزعة الحكومات للسلعوية والهيمنة والوصاية، كما انها في الوقت ذاته تحفز الشعوب الى المبادرة والمشاركة والتفاعل عوضا عن الاستسلام والسلبية والخنوع المزري.

وبعيدا عن الحماسة الايديولوجية او العاطفة القومية، نجد ان التقويم الموضوعي للوضع الراهن الآن يشير الى ان العولمة، رغم مساوئها، تساهم في ردم الهوة وتجسير الفجوة ما بين الانظمة والشعوب، لانها ببساطة شكلت تضاريس لملامح انسان هذا العصر، مكرسة قدر الامكان فك اساره من القيود والعوائق التي كبلته فيها تلك الحكومات، فالجسد العربي مثخن بالجراح، ويعاني من احباطات وانقسامات سرعان ما لبثت ان شكلت لدى (الآخر) صورة نمطية لآلية تفكيره وفضائه المليء بالايديولوجيات المتناحرة والتيارات المتعددة.

على انه ما بعد الاحداث المريعة الاخيرة، وفي خضم التحولات والمتغيرات، نجد ان الحاجة باتت ملحة للاصلاح والعلاج، فالخلل بيّن ولا يحتاج سوى قرارات قاطعة (سياسية بطبيعة الحال)، فالحكومات تخبر الداء وهي موقنة ان في يدها الدواء، ولكن من ومتى يتخذ القرار؟! وكيف تكون الآلية؟! وما هي الرسالة المراد تنفيذها؟ وكيف يمكن خلق التوازن ما بين مصالح الدولة ورغبات (خيارات) الشعب؟! وهل من الممكن بث مفهوم التعايش والتسامح مع (الآخر) والخطاب السياسي الراهن يدعو الى القومية ويحذر من المؤامرة؟! وهل صحيح ان نقد (الآخر) اهم من نقد (الذات)؟ اليس من الطبيعي اصلاح الداخل قبل تعرية مشاكل الآخر؟ اليس من المنطقي حل مشاكل (المحلي) قبل الانتقال الى قضايا (الدولي)؟!

اسئلة تكاد تكون مفحمة لمن يمعن في تداعياتها، ولكن العقل لا يلبث ان يقول ان الاعتراف بالخطأ هو الخطوة الاولى لعلاجه، ولكن من يعلق الجرس؟! نعم، ان اردنا المضي نحو المزيد من المكاشفة، فاننا نقول ان شعوبنا ما زالت تفتقد الى الشجاعة الادبية في مواجهة المحرمات ونقد التابو ومحاولة الانفكاك من الاسار، وكأنها اعتادت على هكذا حياة دون محاولة الخروج من حالة الانكسار والاحباط ودوامة الصراع المرير.

بعض المفكرين يرون انه قد آن الاوان لاصلاح الخلل، منظورا اليه اجتماعيا وثقافيا وفكريا، وهو ما قد يحقق مفاهيم النهضة والتنوير والتنمية والابداع. ويحضرني هنا ما طرحه المفكر محمد الانصاري في مقال له بجريدة (الحياة) حول مساءلة الاصلاح، وطالب، في ما اذكر، باصلاحات ثلاثة تتمثل في: الاصلاح الديني، الاصلاح السياسي، التيقظ العقلي، حتى يمكن ان تستقيم الامور، فيتسنى لتلك الشعوب المشاركة والتفاعل والعيش الكريم. فهو يرى ان البعد عن الغلو هو الطريق الامثل للاصلاح الديني، ولعل كارثة سبتمبر دليل قاطع على خطورة مثل هذا النهج المتطرف الذي يقود الى مآس ومخاطر لا يعلمها الا الخالق عز وجل. اما الاصلاح السياسي فانه يشمل التعددية والمشاركة السياسية وحرية التعبير وحماية حقوق الانسان، وهو ما يوفر المناخ الحي والصحي لتحقيق طموحات الشعوب واجيالها، اما (لاصلاح العقلي) ـ ان جاز التعبير ـ فانه يرى ضرورة الاستناد الى النهج العقلي والمعرفي في التحليل والدراسة، والخروج من الارتجالية وعملية التلقين التي تقتل روح الابداع والابتكار، وكأنه يطالب بمراجعة نقدية للتعليم وطرق تدريسه، او هكذا فهمت.

على ان الاصلاحات، التي يدعو اليها الانصاري، هي بالتأكيد تنطلق من ارضية متداخلة، ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وفي اعتقادي انه متى ما تم اعمال العقل واحترام الذات من قبل (الحاكم او الزعيم) فانه لا يلبث ان يتوق الى تحقيق تلك المبادئ، وهي تكرس مفهوم الشعور بالواجب او الارادة الصالحة ـ كما سماها كانط.

وهكذا شعور سوف يؤدي بطبيعة الحال الى تحقيق (المجتمع الصالح) ولعلنا نذكر هنا ان جان جاك روسو ربط بين السياسة والاخلاق، فما العقد في نهاية المطاف الاّ قانون مرتكز على (العقل) و(الضمير). نعم.. العالم العربي في حاجة ماسة الى تلك الاصلاحات واعادة تشكيل النسيج المجتمعي بما يتواءم والتحولات الراهنة والقادمة دون الانسلاخ الفج عن ثوابت القيم والهوية.

وهذا ما يجعلني اضيف الى اصلاحات (الانصاري) ما يمكن ان اطلق عليه (الاصلاح الاجتماعي)، لانه لا يخفى على مفكرنا الانصاري مدى تأثير مفاهيم القبيلة والطائفة وافرازاتهما من اعراف وعادات وتقاليد على محورية السياسة لدينا، فالمساواة والعدالة والحرية وعدم مركزية السلطة والغاء السلطوية، مصطلحات يصعب تحققها في مجتمعات لا تزال تعتنق مفاهيم القبيلة وتكرس النهج (الابوي) فضلا عن عدم قناعتها بالاسلوب المؤسسي، رغم ان شكلها الخارجي يعطي له الصفة المدنية (المؤسسية) الا ان القاع السوسيولوجي ـ كما جاء في مؤلفاتك ـ تكمن فيه القبيلة وما ادراك ما القبيلة.

يقول سعد الدين ابراهيم (الناشط المصري) «تعالى خطران داهمان من الخارج: اسرائيل والهيمنة الاجنبية، وظهرت في العالم العربي اليوم ثلاثة تيارات: تيار استبداد الحكام بالسلطة والثورة، واستبداد الغضب والتطرف بضحايا الاستبداد، وامام هذين التيارين ظهر التيار الثالث الذي يتمثل في صيحات العقلاء ضد الخطرين الداهمين من الداخل، كما تعالت ضد الخطرين الداهمين من الخارج، وتتلاقى هذه الصيحات الآن عند مطلب الديمقراطية».

على ان المقولة الآنفة الذكر لا تلبث ان تلوح في الافق، معانقة افئدة الشعوب، فهم يتوقون الى الاصلاحات الحقيقية (وليست ذات الشعارات الرنانة).

غير ان المسميات لا تمثل عقبة او عائقا هنا، سواء كانت ديمقراطية او لجانا شعبية او شورى، بقدر ما ان المراد ينزع الى الآلية المراد تطبيقها، ولذلك فالديمقراطية ربما لا تكون النظام الافضل، ولكن ـ كما قال تشرشل ـ ان الانظمة الاخرى اسوأ بكثير.

نعم.. الحل يكمن في الاصلاح، وبالتالي تحرير الانسان العربي من كل القيود التي تكبله، ووقتها فقط يمكن لنا ان ننتقل الى موقع يتاح لنا من خلاله المنافسة والمشاركة، او اثبات الوجود على اقل تقدير.

* كاتب وباحث سعودي

www:zuhair-alharthi.8m.com