التعدد داخل التعدد

TT

اطلع القراء من خلال مقال سابق على الكيفية التي عالجت بها إسبانيا مشروع الانفصال الباسكي بأدوات دولة القانون. وكان الغرض هو بيان أن الديموقراطيا قادرة على حل التناقضات التي تطرأ في المجتمع.

ويعرف القراء من جهة أخرى كيف أن المطلب الباسكي بالانفصال عن إسبانيا تعترضه إرادة إسبانيا كدولة في الحفاظ على موروثها التاريخي في لحظة الاندماج في أوربا، باعتبار أن كيانها الحالي إذا ما بترت منه بلاد الباسك اليوم، وربما غدا كاطالونيا، سيكون وزنه في أوربا أقل.

إن دستور 1978 كان قد هيأ شرطا موضوعيا كان يمكن أن يؤدي إلى معالجة عقلانية لمشكلة القوميات في إسبانيا بتعميم نظام الحكم الذاتي على كل الأقاليم الراغبة في نيله، وصولا إلى لا مركزية جد مرنة، تعمدت منح مقاطعات بلاد الباسك وكاطالونيا امتيازات أكثر مضمونا من باقي المقاطعات المتمتعة بنظام الحكم الذاتي.

ويعتز الرئيس خوسيه ماريا أثنار كثيرا، حينما يقول إنه إذا كانت إسبانيا قد قدمت للعالم نموذجا سلميا للانتفال الديموقراطي، فإنها بعد ربع قرن من الثورة الجذرية التي عرفتها حالة البلاد، في وسعها أن تتحدث اليوم عن نتائج ذلك الانتقال الديموقراطي، من حيث توطيد الديموقراطيا ومن حيث التقدم الاقتصادي، الذي مكنها من أن تكون في الموعد المحدد لتوحيد العملة الأوربية، مع التبعات التي يقتضيها ذلك، وأن تكون ذات اقتصاد يصنفه البنك العالمي في الرتبة الرابعة عشرة في العالم.

لكن نظام الحكم الذاتي المخول لمختلف المقاطعات بما في ذلك مقاطعات بلاد الباسك، لم يطفئ غلواء التطلع الانفصالي، رغم ما استفادته تلك المقاطعات من امتيازات، وما يستفيده اقتصاد مقاطعات الباسك بالذات من التقدم الذي تحرزه إسبانيا بمجموعها، أي بمقدرات ما يزيد على أربعين مليون منتج، وبالمركز الذي أحرزته إسبانيا في العالم بجميع مكوناتها.

وهذا النقاش يفرز في بلاد الباسك نفسها انقساما حادا. أي أن الباسكيين ليست كلمتهم واحدة في شأن متابعة الانتماء إلى إسبانيا بما يفيء عليهم ذاك الانتماء من مزايا. كما أنهم من جهة أخرى ليسوا على كلمة واحدة في شأن القطع مع ذلك الانتماء والانفراد بكيان وطني متميز.

هناك عدد وافر من الباسكيين يميل إلى مقاربة تقول إن الوضع الحالي يمكن تحمله. فهم يقرون بأن لبلاد الباسك تميزا تاريخيا، يعبر عن نفسه في وجود لغة خاصة لا تمت إلى العائلة اللغوية اللاتيتنية بصلة، ويعبر عن نفسه بوجود مؤسسات وأعراف خاصة تم اكتسابها عبر التاريخ، ويقرون بأنه من أجل ذلك حصلت مواجهات مع الحكم المركزي القشتالي لرفع القهر والتسلط.

ويقرون بأن نظام الحكم الذاتي الذي جاء به دستور 1978 تجاوب مع هذا الشعور الحاد بالتميز، وأعطي حلولا في دائرة دولة ديموقراطية، تعترف بالخصوصيات الجهوية، بما في ذلك شرطة خاصة. وبعد أن كانت المطالب المتمحورة حول ترضية الشعور الوطني الباسكي مقتصرة لمدة طويلة على الحزب الوطني الباسكي واليسار، أصبح التعاطي بواقعية مع الواقع الذي أفرزه نظام الحكم الذاتي، موقفا يتقاسمه اليمين الحاكم في مدريد مع اليسار المعارض المتمثل في الحزب الاشتراكي.

وهناك رأي عام عريض يلتقي مع الحزبين المركزيين، الشعبي والاشتراكي، ويقر بأن الوضع الحالي يشكل ترضية كافية، ويدافع عن الميثاق الذي يمثله دستور 1978، ويعارض أي تحرك انفصالي ويعتبر أن المشكلة الباسكية قد حلت وأن الفضاء الذي تعبر فيه المشاعر الوطنية الباسكية هو الفضاء الإسباني بل الأوربي الأرحب.

لكن هذا الطرح لا يتحقق حوله الإجماع. فهناك من الباسكيين من يرى أن المشروع الانفصالي يجب أن يذهب إلى شوطه النهائي، وأن الشعب الباسكي إذا كان قد تحمل القهر قرونا، والتجأ إلى صيغ أتاحتها التطورات السياسية في إسبانيا، فالفرصة متاحة أمامه الآن لتحقيق دولة باسكية مستقلة عن إسبانيا.

أي أن مرحلة الحكم الذاتي كانت خطوة لامتلاك الأدوات التي تجعل التسيير في يد الباسكيين، في الطريق إلى الاستقلال عن إسبانيا، باعتبار أنه لا يمكن للمرء أن يكون في آن واحد باسكيا وإسبانيا.

جرت من جراء ذلك مواجهة سياسية قوية في السنوات الأخيرة بين القائلين بالمقاربتين. وتفاعلت تلك المواجهة عبر أدوات دولة القانون. وقد تعرضنا لذلك بما يسلط الضوء على تلك التجربة السياسية المتفردة. كما بينا أن إسبانيا التي تمخضت عنها الديموقراطيا هي إسبانيا تعددية.

وبرز من خلال كل ذلك أن هناك تعددا داخل التعدد. فإذا كانت إسبانيا تعددية فبلاد الباسك بدورها تعددية. ففي داخل بلاد الباسك هناك ما يقرب من نصف الناخبين يؤيد طرح الحزب الوطني الباسكي الذي كان يقدم نفسه كقوة سياسية معتدلة يروم الحوار مع الحكومة المركزية ويعمل على بلورة المشاعر الباسكية من خلال المؤسسات، في الوقت الذي يطالب فيه بتغيير الدستور للحصول على حقوق أوسع، وربما طمح إلى تغيير نظام الحكم الذاتي. وفي المدة الأخيرة أصبح لا يتلكأ في المناداة بتقرير المصير.

وهناك نصف آخر من الباسكيين يميل إلى مقاربة الحزبين المركزيين، وهو يركز على مقاومة العنف الذي تمارسه إيطا. وإمعانا في رفض الإرهاب تكتلت أغلبية كبيرة من الرأي العام الباسكي في المظاهرات الحاشدة التي تخرج للشوارع لاستنكار الإرهاب.

وكانت قمة المواجهة بين ذوي المقاربتين، بمناسبة سن قانون أصدره البرلمان المركزي بمدريد يقضي باعتبار حزب باتاسونا الذراع السياسي لمنظمة إيطا، خارجا على القانون. وهنا وقع في يد الحكومة الإقليمية التي يتولاها الحزب الوطني الباسكي، التي كان عليها أن تمتثل للقانون الخاص بتحريم باتاسونا، لأنها ملتزمة بالشرعية النابعة من دستور 1978، ولكنها تلكأت في ما يخص قطع الحوار معه. بل إنها تلكأت حتى في تطبيق قرار إقفال بعض مقرات الحزب المحظور، حينما وجدت ذريعة تتكئ عليها.

ولإبداء تنمرها من قرارات المؤسسات المركزية حكومة وبرلمانا وقضاء في ما يخص تعقب حزب باتاسونا، فقد التجأت الحكومة الإقليمية لبلاد الباسك إلى مناورة جديدة، إذ فتحت مشاروات مع القوى السياسية الباسكية، حول مشروع يرمي إلى إرساء علاقات متميزة مع الاتحاد الأوربي.

ومر الأسبوع الماضي حافلا باستقبالات أجراها رئيس الحكومة الإقليمية السيد إيباريتشي، مع الأحزاب الباسكية، شملت حزب باتاسونا المحظور من قبل مدريد. وقد كانت المواقف متنوعة إزاء هذه المشاورات، ورفض الحزب الشعبي ( فرع الباسك) المشاركة في تلك المشاورات باعتبار أنها تشمل حزبا لا يحق له أن يمارس حقا سياسيا يكفله الدستور للأحزاب الشرعية.

إلا أن الجوهر هو ما يستبد بالاهتمام. ذلك أن طرح إيباريتشي يدور حول إقامة علاقات مع الاتحاد الأوربي كدولة مشاركة. وعملت الحكومة المركزية بمدريد على أن يكون رد بروكسيل سريعا على مبادرة الباسكيين، وفحواه أن اتفاقية الاتحاد لا تستوعب اقتراحا من قبيل ما تسعى إليه الحكومة الإقليمية الباسكية.

إن سياسة الاتحاد الأوربي تنطوي على أن الأقاليم لها مكان في الهيكلة النهائية للاتحاد. وعلى هذا الأساس فإن أقاليم أوربية ذات تميز خاص تتطلع إلى أن يكون لها في المستقبل علاقات مباشرة مع بروكسيل، تعوض علاقات الانتماء الحالية لتلك الأقاليم مع الدول التي تنتمي إليها. ولكن هذا لن يكون إلا في خاتمة المطاف. ويتطلع الكاطالانيون في صبر إلى أن يكون لهم مثل هذا الوضع في المستقبل، ولهذا تجدهم يسعون للحصول على توسيع جوهري لاختصاصات الحكومة المحلية في نطاق الحكم الذاتي الجاري العمل به حاليا، وفي نفس الوقت يحضرون أدواتهم للالتحاق بفلك العلاقة بين بروكسيل والأقاليم في وقت لاحق.

وهذا السلوك البراغماتي عند الكاتلانيين يناقضه السلوك المتسرع للباسكيين الذين يطرحون الآن على الطاولة مسألة الانفصال، من خلال العمل داخل المؤسسات كما يعمل الحزب الوطني الباسكي، ومن خلال العمل من خارج المؤسسات كما تعمل إيطا وذراعها السياسي باتاسونا. ومن خلال هذا وذاك يتقلب الحزب الوطني الباسكي للوصول إلى الانفصال من خلال الشرعية.

إن مسألة التميز القومي تطرح نفسها في عالم اليوم بقدر ما تطرح نفسها المقاربات التجميعية الرامية إلى إقامة تكتلات اقتصادية واسعة. وتطرح هناك وهناك صيغ قانونية وسياسية للتجاوب مع ما هو ممكن وما هو نافع.