الجزائر وقمة الفرانكوفونية

TT

لم تحظ مشاركة الجزائر في قمة الفرانكوفونية بحماس شعبي كبير، بل ان كثيرين شعروا بالامتعاض، وراح البعض يزعم بأن الرئيس الجزائري كشف عن وجهه الفرانكوفوني، والتقى بالرئيس شيراك في وضعية تذكر بأغنية نجاة.. «اني رأيتكما معا».

والواقع هو ان العرس الذي احتضنته بيروت في الاسبوع الماضي كاد يقتصر على المحتفلين في فندق فينيسيا الفاخر، والمدعوين اليه من حملة البطاقات الامنية، وغاب عنه المعنيون الاوائل وهم مجموع المثقفين، وكان هذا خطأ تنظيميا معيبا، كما غابت عنه لغات الحضارات الممثلة في لقاء يزعم التفتح.

وبالرغم من حضور رؤساء غير فرانكوفونيين فقد كانت كل اللافتات بالفرنسية، وكان هذا التنظيم الحصري صورة لخلفيات الفرانكوفونية منذ بروزها، حيث كانت المخابرات ومصالح الاحتكارات هي التي تحدد اهم المعطيات المتعلقة بنشاطاتها، مؤكدة أنها صورة من صور الاستعمار الجديد.

ولقد كان عقد اللقاء في عاصمة عربية مناسبة لاضافة لغة المضيف الى اللافتات الموضوعة امام رؤساء الوفود والى اللوحة الملصقة بعرض الحائط وراء ظهورهم، ولكن التنظيم اثبت، مرة اخرى، خلفياته المشوهة، وفشل في تحقيق التطور الذي ينتقل بالفرانكوفونية من مجرد تجمع للدول المستعمرة سابقا.. تجمع يتم لضرورات تليفيزيونية وتقبل المشاركة فيه لتسول الدعم السياسي والمالي، ينتقل بها الى حركة تحررية مستقبلية، متفتحة على كل الثقافات والحضارات، تنتزع دورا عالميا جديرا بالأمم التي تنتمي اليها.

واتصور انه كان من المنطقي ان يحس رجال «الضاد» في الجزائر بالاحباط نتيجة لما رأوا فيه انتصارا لتيار مستلب يعمل لاعادة الاستعمار من النافذة عن طريق جعل اللغة الفرنسية واقعا يفرض نفسه على كل المستويات، ويتحول من «الفرانكوفونية» الى «الفرانكوفيلية» بل «الفرانكومانية»، ويتسم بعدائه الواضح المتزايد والمتشنج لكل القيم الحضارية الوطنية.

وشعر كثيرون بالغصة وهم يتابعون وصول الرئيس الجزائري الى بيروت، بينما تعرف الجزائر وضعية داخلية تتميز بنكسة كبيرة للحرف العربي.

وبغض النظر عما قد يبدو مبالغة مبنية على سوء تفهم للخلفيات، كان من اهم اسبابها عدم قيام المؤسسات المعنية بشرح وجهة نظر الرئيس وحقيقة اهدافه، فإن النفور الشعبي كان رد فعل طبيعيا لمجموع الناطقين بالضاد، من كتاب ومعلمين واساتذة ومثقفين بشكل عام، يحسون اليوم باليتم والضياع، ويزيد من احباطهم ان من يتبنون قضيتهم متناقضو الاجتهادات مشتتو الجهود مبعثرو الصفوف، ومنهم من تنطبق عليه مقولة: «اذا كان هؤلاء هم حلفاؤك فلست في حاجة الى اعداء». ومنهم من يستعمل قضية الانتماء للمساومة التجارية او للابتزاز الوظيفي، رغم ان الاغلبية الساحقة مؤمنة بالهدف النبيل، مستعدة لمواجهة كل التحديات من أجل تحقيقه، ولكنها لم تجد بعد القيادة التي تثق بوعيها وبمقدرتها على ادارة الصراع، بعيدا عن الغرور الذاتي وعن التهريج الحزبي وعن الحسابات الشخصية.

لم يكن غريبا اذن ان ينفر رجال الفكر العربي من لقاء بيروت، خصوصا وهم يعرفون جيدا ان قرنا وثلث قرن من الاستعمار الفرنسي خربت اسس الانتماء الحضاري للبلاد بتحطيم المدارس والمعاهد وتحويل اللغة العربية الى لغة اجنبية، وفي الوقت نفسه، وعلى عكس ما يتصوره البعض من ان الهدف كان نشر اللغة الفرنسية، حُرم الجزائريون من التعليم العام، ولم يتجاوز عدد الذين استفادوا من اللغة الفرنسية خلال الفترة الاستعمارية عشرة في المائة من مجموع المواطنين، معظمهم لم يمنح الا النزر اليسير من المفردات الذي تحتاجه الادارة الاستعمارية.

وبالطبع فقد كانت الاسبقية تعطى لمناطق معينة ولشرائح اجتماعية بعينها، بهدف خلق مجموعة مرتبطة بالوجود الاستعماري، بل أخطر من ذلك استثمارها لنشر المسيحية الغربية، في محاولة مزدوجة لمحاربة العربية والاسلام.

وبعد استرجاع الاستقلال واصلت الفرانكوفونية، التي كانت تشرف على توجيهها مصالح مخابراتية واحتكارية، العمل على زرع بذور الفرقة داخل المجتمع الجزائري ومحاصرة جهود التنمية الجزائرية، وكان من بين نشاطاتها المشبوهة اقامة الاكاديمية البربرية في باريس عام 1967، ومن آخر «بدعها» اختيار حركي سابق ليكون وزيرا في الحكومة الفرنسية، ممثلا لابناء المغرب العربي، الذين اسقطوا جان ماري لوبين لحساب جاك شيراك، ومنهم من ندم اليوم على ذلك.

لم يكن غريبا اذن ان يتعامل الوطنيون مع بيروت بمزيج من الغضب والمرارة، فقد رأوا في المشاركة الجزائرية انحرافا عن مسيرة يعتز بها كل الجزائريين على اختلاف توجهاتهم.

لكن الغريب ان الذين شعروا بالاحباط واستنفر بعضهم البعض للهجوم على تلبية بوتفليقة لدعوة لحود كانوا ممن يرفعون، منذ الاستقلال، لواء الفرانكوفونية، ويدعون الى اعتبارها غنيمة حرب، ويحاربون كل من يطرح قضايا الانتماء الوطني الحضاري، مفسرين موقفهم ذلك برفضهم للثوابت «التي قتلت الجزائر».

وكان الاكثر غرابة هو موقف المتعصبين للنزعات البربرية، والذين يرفض الواحد منهم رد السلام اذا طرح بالعربية، ويعاجلك بكلمة «بونجور» كتأكيد لموقف ورفض لانتماء.

وهكذا حقق مؤتمر الفرانكوفونية في بيروت هدفا لم يكن متوقعا على الاطلاق، فقد ثبت اليوم ان دعوات الفرانكوفونية المباشرة ودعواتها غير المباشرة، برفع شعارات الامازيغية، لم تكن اكثر من عملية تجارية يحاول بها بعض المستلبين ضمان الدعم الفرنسي لوجودهم على الساحة السياسية الجزائرية، وهو دعم تزايد في السنوات الاخيرة بعد اقتناع اصحاب القرار في فرنسا بأن وجودها في الجزائر مرهون بتنامي قوة الاقليات الفكرية والسياسية، على حساب الاغلبية المؤمنة بالانتماء العربي الاسلامي، وتأكد اليوم بأن المزايدات والمتاجرة بالقضايا الثقافية لم تكن تخصصا مقصورا على بعض المعربين او الوطنيين او الاسلاميين كما كان يزعم رجال الطابور الخامس، وثبت ان جل القضايا التي زلزلت الساحة السياسية في الجزائر كانت نتيجة لاستعمال ثوابت الأمة كرصيد للمتاجرة وللحصول على مكاسب من اطراف خارجية هدفها الحقيقي تدمير الثقافة العربية وتخريب الانتماء الحضاري.

وكان افتتاح الرئيس الجزائري في بيروت خطابه بالبسملة والصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبالعربية، رسالة لا اتصور انها فاتت الحاضرين.

كما لا اتصور ان شيراك لم يفهم ابعاد قول بوتفليقة بأن «الجزائر دفعت ثمنا غاليا في سبيل انتزاع استقلالها، لكنها دفعت ثمنا اغلى لاسترجاع شخصيتها التي هددها الزوال والاضمحلال بفضل سياسية استعمارية طويلة الأمد».

ولقد التف بوتفليقة، بمشاركته حول خصومه، وقفز فوق رؤوسهم، ليثبت أنهم لا يملكون أي دور في صياغة القرار الجزائري، وهو أمر بالغ الدلالة، ومن الخطأ الفادح الا يحسن الرئيس الفرنسي قراءة معانيه، ليتجه نحو التعاون المخلص مع الرئيس الجزائري بدون محاولة للعب وراء ظهره، والبحث عن تحالفات تأكد اليوم انها لا تقدم ولا تؤخر، حتى ولو تمكنت من اثارة الضجيج وملء الجو بدخان الحرائق الناتج عن اطارات السيارات المشتعلة.

انها فرصة جدية لفرنسا لكي تشارك بفعالية في انهاء واحدية القطبية الدولية، وبناء عالم جديد متعدد الاقطاب متكامل المصالح، اذا ادركت اهمية التجاوب النزيه مع العرب والمسلمين، وهكذا تكون قمة بيروت انطلاقة حقيقية نحو حرمان واشنطن من الانفراد بتقرير مصير العالم، ونحو تأكيد الدور الاوروبي في حماية الشعب الفلسطيني، كواجب تاريخي على الامم الاوروبية التي تتحمل مسؤولياتها في ما اصاب اليهود، وهو لا يقل اهمية عن واجبها في ترسيخ اسس الشرعية الدولية، التي تتحمل مسؤولية في الاخلال بها نتيجة لسياسة تعدد المكاييل.

وأتصور انه كان للوجود العربي دوره في صدور البلاغ النهائي الذي لا يمكن وصفه بأنه يسير في خط واشنطن، وهذا اضعف الايمان.

والمهم في النهاية هو ان الانتقال بالفرانكوفونية من وضعية النوادي المغلقة الى وضعية الفضاءات الفكرية المفتوحة، اذا تم، سيكون نقلة نوعية في النشاط الدولي الهادف الى تحقيق الامن والاستقرار لجميع الشعوب، ولا شك ان وجود دول انجلوفونية وعربية داخل المجموعة يرسم طريق الخروج بها من جهاز تصوغ توجهاته المخابرات والاحتكارات، الى مؤسسة يكون القرار الاول فيها لقيادة سياسية متبصرة.

وبامكان شيراك ان يبدأ صفحة جديدة للفرانكوفونية، تكون متفتحة على كل الثقافات، مستقبلة لكل الحضارات، ولا تكون فريسة لاقليات فكرية ونزعات عنصرية تتاجر بها وتحرمها من القيام بدورها الحضاري المأمول.

وهنا فقط تستطيع فرنسا القيام بدور تاريخي على الساحة العالمية كقطب اوروبي يحظى بتعاطف العالم الآسيوي والافريقي، بالاضافة الى الرصيد الاوروبي نفسه.

وبدون تحقيق هذا تسقط مراهنة الوطنيين الجزائريين على وعي فرنسي جديد، ويتأكد ان فرنسا من محترفي اضاعة المواعيد التاريخية.

ولن يفيدها طابورها الخامس في شيء، لأن الجزائر العربية المسلمة ستظل كذلك الى ان يرث الله الارض وما عليها.